سجل إعجابك بصفحتنا على الفيس بوك لتصلك جميع مقالاتنا

بحث فى الموضوعات

الاثنين، 18 مارس 2013

مقالات فلسفية: معنى التنوير بقلم/ د. جابر عصفور عرض و تقديم: مروان محمد



كلما فكرت فى كلمة التنوير  ترابطاتها الدلالية تداعى غلى ذهنى مدلولان: العقل و النور – الأول يشير إلى الثانى إشارة السبب إلى النتيجة و الثانى يشير إلى الأول إشارة المعلول المتعدد الأبعاد إلى العلة الواحدة المتجددة. هذا الترابط بين العقل و النور موجود فى اللغة الإنجليزية التى ضافت دلالة النور Light صيغة الفعل ينير enlighten و مصدره التنوير, إو الإنارة enlightment و لا تتلف هذه الدلالة الاشتقاقية فى اللغة الفرنسية عنها فى اللغة الفرنسية أو الألمانية أو غيرها من اللغات الأوربية.
لكن هذه اللغات حديثة العهد بالقياس إلى اللغة العربية التى سبقت غيرها من اللغات الأوربية فى استعارة النور للمعرقة و وصلت بين فعل المعرفة الإنسانى و دلالة النور, كما وصلت بين الجهل و الظلام, و منحت هذا الوصل دلالة سامية, متميزة, فالنور من صفات الله عز و جل (الله نور السماوات و الأرض) و من مسميات العقل الإنسانى, فيما يقول الغزالى فى الإحياء, و حيث يذكر النور و الظلمة فى القرآن الكريم يراد بهما العلم و الجهل ( يخرجهم من الظلمات إلى النور) و قبل الغزالى بقرنين على وجه التقريب, وصف الحارث بن أسد المحاسبى (243هـ) العقل بأنه غريزة يتهيأ بها إدراك العلوم النظرية كأنه نور يقذف فى القلب, و بعد المحاسبى بأكثر من قرن, ذهب أبو بكر بن زكريا الرازى (313 هـ) فى مفتتح كتابه " الطب الروحانى" إلى أن العقل إذا صفا " أضاء لنا غاية إضاءته" و بعد الرازى جاء ابن سينا (428 هـ) الذى ربط الوجود كله بالنور, و العدم بالظلام, و لم يكف عن التطلع إلى " فالق ظلمة العدم بنور الوجود" و حين انحاز الغزالى (505 هـ) إلى الأشاعرة, و هاجم الفلاسفة فى كتابه الشهير " تهافت الفلاسفة" مؤسسا اتجاها مناقضا للعقالنية, لم يتخل تماما عن الميراث العقلانى الذى ورثه عن الفلاسفة الذين هاجمهم, فدافع عن العقل فى كتابه " فضائح الباطنية" و ربط بين المعرفة و النور بوجه عام, بين العقل و دلالة النور بوجه خاص, و ذهب إلى أن العقل منبع العلم و مطلعه و أساسه, و العلم يجرى منه مجرى النور من الشمس و الرؤية من العين.
و ما يعنيه التنوير, فى هذا السياق الدلالى, هو منهج الأولوية للعقل فى إدراك الوجود, و إبداع العالم, و النظر إلى العقل البشرى بوصفه النور الذى يهتدى به الإنسان, و يصوغ به عالمه, متحررا من أشكال الوصاية التى تحجر على العقل أو تقيد انطلاقه و كان منح الأولوية للعقل, فى السياق نفسه, شعار طوائف متعددة فى تراثنا العربى الإسلامى, اقترن لديها نور العقل حرية الإنسان و حقه فى اختيار فعله الخلاق و ممارسته, فى كل مجالات الفعل المعرفى و الاجتماعى و السياسى و الاقتصادى, و ذلك فى مواجهة طوائف أخرى استبدلت العقل بالنقل, و بالحرية العبودية, و بالاختيار الجبر و بالعدل الظلم و بالمعنى العقلانى للتوحيد المعنى القمعى للإذعان المفروض على الجماعة, و من الواضح أن اقتران العقل بالنور لدى طوائف المتكلمين و الفلاسفة كان بمثابة تأكيد لحرية العقل الإنسانى فى الإدراك و الإبداع, و تأكيد لنوع جديد من المساواة بين الطوائف التى أشرقت عليها شمس الإسلام, لو تفرق بينها إلا بالتقوى و بمسعى العقل و جهده فى الانتقال بمن حوله من الظلمات إلى النور.
و لذلك تحدث عقلانيو الإسلام عن ملكة العقل التى تميز الإنسان على الحيوان و التى يدرك بها الإنسان الأمور الغامضة البعدية و الخفية المستورة, منذ القرن الثانى للهجرة, و إذا كان ذلك هو مقدار العقل و محله, فيما يقول أبو زكريا الرازى, فخليق بنا أن لا نحطه عن رتبته و لا ننزله عن درجته, و لا نجعله  و هو الحاكم محكوما عليه, و لا هو المتبوع تابعا, بل نرجع فى الأمور إليه و نعتبرها به و نعتمد فيها عليه, فنمضيها على إمضائه و نوقفها على إيقافه.
هذا الذى قاله أبو زكريا الرازى الفيلسوف وجد ما يدعمه فيما أكده أغلب الذين جاءوا من بعده, حتى أولئك الذين لم يمضوا بالعقل و مع العقل إلى منتهاه, و توقفوا عند معنى العقل الناقل, أو المستفيد, أكثر مما تطلعوا إلى العقل الخلاق, أعنى أمثال أبى حامد الغزالى الذى تحدث عن " بيان شرف العقل" فى الباب السابع من الإحياء فقال إن شرف العلم من قبل العقل, و العقل منبع العلم و مطلعه و أساسه, و العلم يجرى منه مجرى النور من الشمس, و يؤكد الغزالى شرف العقل مستشهدا بالحديث القدسى الذى يقول: أول ما خلق الله العقل فقال له: أقبل فأقبل, ثم قال له: أدبر فأدبر, ثم قال الله عز و جل: و عزتى و جلالى ما خلقت خلقا أكرم على منك, بك أذ و بك أعطى و بك أثيب و بك أعاقب, و لا يتلفت الغزالى إلى ضعف هذا الحديث فى الإسناد من منظور علماء الحديث, فقد أخرجه الطبرانى بإسنادين ضعيفينو ذلك لأن ما يعنيه هو دلالة الحديث نفسها من حيث إشارتها إلى المكانة المتميزة للعقل, بوصفه حجة الله على خلقه, و الجوهر الأسمى الذى خلقه فيهم ليعرفوه, و ينير لهم طريقهم فى الوجود. و يمضى الغزالى فى تأكيد هذه الدلالة فينقل ما روى أن عبد الله بن سلام رضى الله عنه سأل النبى صلى الله عليه و سلم فى حديث طويل فى أخره وصف عظم العرش و أن الملائكة قالت: يا ربنا هل خلقت شيئا أعظم من العرش؟ فقال: نعم: العقل قالوا: و ما بلغ من قدره؟ قال: هيهات لا يحاط بعلمه. هل لكم علم بعدد الرمل؟ قالوا: لا قال الله عز و جل: فإنى خلقت العقل أصنافا شتى كعدد الرمل, فمن الناس من أعطى حبة و منهم من أعطى حبتين و منهم من اعطى الثلاث و الأربع و منهم من أعطى فرقا و منهم من أعطى وسعا جمعا, و منهم من أعطى أكثر من ذلك" و يبدو أن الغزالى أراد بالدلالة المضافة لهذا الحديث الأخير تأكيد من نوع آخر من التمايز بين البشر على أساس معرفى, هو أساس القدرة العقلية التى يمايز بها الله بين مخلوقاته.
من كتاب أنوار العقل للدكتور جابر عصفور مكتبة الأسرة 1996

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق