سجل إعجابك بصفحتنا على الفيس بوك لتصلك جميع مقالاتنا

بحث فى الموضوعات

الأحد، 2 مارس 2014

القصة القصيرة: أسطورة الذكريات بقلم/ ربا الناصر " من الأدرن"

تمهيد

عندما أتى المساء وتشرب السكون وقع أقدام المارة، لم يبق في منزلي سوى الهدوء ورعشات ضوء السراج الضعيف يمضيان معي ليلي الطويل. وعندما توسدت أوراقي المبعثرة على الأرض بدأت تجول في عقلي أسئلتي المعتادة، محاولا إشباع فضولي في المعرفة، فداهمني سؤال سألت قاع نفسي عنه:
"هل من الممكن أن تحتفظ الأماكن بذكرياتها دون أن تذريها رياح الزمن ويخفيها ظل الإهمال؟"
لم أعلم إجابته، فحولت نظري إلى ضوء السراج حتى شعرت بنور روحي تنسلخ من جسدي وتحلق بالقرب منه وحدها، قبل أن تنضم إليها فراشة دخلت من نافذة غرفتي وقد جذبتني رقة جناحها وبداعة ألوانها. حامت حول روحي برشاقة فتنتني، وقبل أن تحترق من الضوء قالت لي:
"أيها الإنسان، يا من تحاول اكتساب الحكمة، اذهب إلى المكان الذي يرشدك إليه قلبك، فهناك تكمن الإجابة."
مع بداية الصباح فتحت الأزهار عيونها الدامعة وبدأت الحياة شيئا فشيئا تستيقظ من سباتها، حتى اتشحت السماء بنحاس أشعة الشمس واصطفت الغيوم فوق خط الشفق ملقية بظلها على أغصان الأشجار المرفوعة تجاه السماء كأنها تطلب الغيث.
ومع توسط الشمس في كبد السماء كنت أمشي بين أشجار الزيتون مصغيا لنبضات قلبي وإحساسها بمعرفة موقع المكان، تاركا لها حرية سلك الدروب الملتوية. وقفت على مقربة من منطقة نائية فيها القليل من الشجر يتوسطها جدول ماء سريع الارتطام بصخرة عالية على الضفة الشرقية من الجدول، حيث كنت أقف. بدأت نبضات قلبي تزداد تواترا وملامح المكان بدأت تلمع كومضات في عقلي مع اقترابي منه أكثر فأكثر.
وبعد قطع مسافة قصيرة، لمحت تيجان شجر الكينا من بعيد تتمايل بشموخ على أنغام العصافير التي تسكنها. بدأت ملامح المكان تتوضح، فوقفت أمام كوخ صغير مبني من حجارة صفراء اللون، تحيطه أشجار الكينا والصفصاف من كل جانب. وقفت أمامه ولي رغبة في وضع يدي على صدري صامتا، مستشعرا ما قد يحويه هذا المكان من ذكريات لا زالت عالقة فيه تستوجب مني الاحترام.
نظرت إلى الكوخ مطولا، وقد أعجبتني نافذته الحدباء وقضبانها المتشابكة، أما بابه فكان مقوسا كظهر عجوز طاعن في السن. بدا المكان للحظة مهجورا، ولكن فجأة، طل طيفان لرجل وامرأة من نافذته الحدباء ينظران إلى الأفق الممتد أمامهما بأمل. اقتربت منهما فكنت أراهما ولا يراني. دخلت الكوخ والطيفان لا يزالان يحدقان في الأفق، وكان على مقربة منهما شيخ هرم تحيطه هالة من النور كأن ضوء القمر انسكب على جسده وغطاه. كان العجوز مكورا نفسه عند زاوية ضيقة وقد كبلت يداه وقدماه. لم أعلم من هو ، ولم كبل بطريقة لا تتفق وسنه الكبير، لكن ما علمته جيدا في تلك اللحظة حديث الطيفين الهامس.
نظر الرجل إلى العجوز بازدراء ثم خاطب المرأة: "لقد حان وقت الانتقام من هذا العجوز والخلاص من هيمنته على مشاعرنا، والعصف بأحلامنا، فلم يعد لي صبر على إبقائه حيا، ولن أطيق أن تبقى أحلامنا دفينة في جوفه المتعفن. هلمي وساعديني في رميه في الجدول، لعله يكتسب بعض الطهر قبل موته."
جر الرجل العجوز والمرأة تتبع خطواتهما، يغذان السير تجاه جدول المياه، وهناك وقف الطيفان وراء الرجل العجوز الخاضع لأوامرهما طالبا الرحمة دون أن يفصح عنها، مكتفيا بنظرة عينيه الغائرتين. رمقه الطيفان بازدراء كما رمقته العصافير المستقرة على فنن الأشجار المورق، كأنها تحفظ هذه اللحظات في ذاكرتها لتقص هذه الحكاية نشيدا تواسي به قلوب العشاق الملتهبة.
وبعد دقائق ألقيا به في النبع، فكان ارتطامه بالصخرة الكبيرة أول وآخر ألم شعر به، على الرغم من إشعاره جميع العشاق بألم الفراق واعتصار الحسرة في قلوبهم، فهذا العجوز ليس إلا تجسيدا لحظهم العاثر، هذا الحظ الذي تعايشوا معه باسم الرضا والقناعة بعطاء القدر وقسمته، لكنه اليوم مجرد وهم علا الهواء فذرته الرياح بعيدا.
طفت جثة الرجل على سطح المياه وبدأ جسمه بالتشقق. خرجت منه فراشات تماثل تلك التي رأيتها مسبقا: دقة في جمال جناحها وبراعة ألوانها. انتشرت الفراشات في كل مكان بجنون كأنها تعرف وجهتها فهي تحتفظ في دقة جسدها قصص عشق حبكت بين أحضان هذا المكان، وتحمل في جمال جناحيها بشرى للعاشقين الجدد بدوام حبهم والأمل في تحقيقه.
وقف الطيفان يرقبان خروج الفراشات وابتسامتهما تزداد بريقا مع تزايد خروج الفراش من بين الشقوق. شعرا بطعم انتصار لم يبلغاه في تلك الأيام. ازدادت ابتسامتهما أكثر فأكثر فلبستهما نشوة مجنونة امتزجا على أثرها وصارا طيفا واحدا صعد على سلالم من أحلامهما الماضية حتى بلغا صفحة السماء، وهناك اتخذا موضعا لهما وأصبحا كنجمين سيارين في منظومة واحدة.

عندما أغمضت الأزهار عيونها وبدأت خيالات الصخور بالاستطالة، ودب الصمت في المكان، قررت الرجوع من حيث أتيت. وقد وجدت شيئا هنا في رحم الطبيعة، شيئا لن تمحوه دموع الخريف ولن تميته قسوة الشتاء، شيئا يتجلد ويحيا في الربيع ويزهر في الصيف. وجدت مفتاحا لسؤالي، لكني أيضا وجدت أسطورة تقبع في أحشاء ذلك المكان، أسطورة لا يفهمها إلا من يشعر بها ويعيش عليها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق