سجل إعجابك بصفحتنا على الفيس بوك لتصلك جميع مقالاتنا

بحث فى الموضوعات

الخميس، 10 مايو 2012

شخصيات: الإمام أبو حنيفة النعمان - لن ينساه التاريخ 2 بقلم \ محمد عزوز



22\6\2011

ولد أبو حنيفة النعمان بالكوفة سنة 80 هـ من أسرة فارسية، وسمي النعمان تيمنًا بأحد ملوك الفرس؛ من أجل ذلك كبر على المتعصبين العرب أن يبرز فيهم فقيه غير عربي الأصل، وحاول بعض محبيه أن يفتعل له نسبًا عربيًّا، ولكنه كان لا يحفل بهذا كله؛ فقد كان يعرف أن الإسلام قد سوى بين الجميع، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - احتضن سلمان الفارسي وبلالاً الحبشي، وكانا من خيرة الصحابة، حتى لقد كان الرسول يقول: سلمان منا أهل البيت. وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول عن بلال: سيدنا بلال.

ولقد شهد أبو حنيفة في طفولته فظائع الحجاج والي العراق وبطشه بكل مَن يعارض الأمويين حتى الفقهاء الأجلاء، فدخل في نفسه منذ صباه عزوف عن الأمويين واستنكار لاستبدادهم، ورفض للطغيان.. ثم إنه ورث عن أبيه وأمه حبًّا لآل البيت، فما كان في ذلك العصر رجال ينبذون التفرقة بين المسلمين العرب وغير العرب إلا آل البيت، وقد تمكن حب آل البيت من قلبه عندما تعرف على أئمتهم وتلقى عنهم، وعندما عاين أشكال الاضطهاد التي يكابدونها كل نهار وليل!! حتى لقد شاهد الإمام الصادق واقفًا يستمع إليه وهو يفتي في المدينة، فوقف قائلاً: يا ابن رسول الله، لا يراني الله جالسًا وأنت واقف.

وكان أبوه تاجرًا كبيرًا فعمل معه وهو صبي، وأخذ يختلف إلى السوق ويحاور التجار الكبار ليتعلم أصول التجارة وأسرارها، حتى لفت نظر أحد الفقهاء فنصحه أن يختلف إلى العلماء، فقال أبو حنيفة: إني قليل الاختلاف إليهم. فقال له الفقيه الكبير: عليك بالنظر في العلم ومجالسة العلماء؛ فإني أرى فيك يقظة وفطنة، ومنذ ذلك اليوم وهب الفتى نفسه للعلم واتصل بالعلماء، ولم تنقطع تلك الصلة حتى آخر يوم في حياته.. ولَكَم عانى وعانى منه الآخرون في هذا الميدان الجديد الذي استنفر كل مواهبه وذكائه وبراعته!!

***

وانطلق الفتى الأسمر الطويل النحيل بحلة فاخرة، يسبقه عطره، ويدفعه الظمأ إلى المعرفة، يرتاد حلقات العلماء في مسجد الكوفة.. وكان بعضها يتدارس أصول العقائد (علم الكلام)، وبعضها للأحاديث النبوية، وبعضها للفقه وأكثرها للقرآن الكريم، ثم مضى ينشد العلم في حلقات البصرة، وبهرته حلقة علماء الكلام، لما كان يثور فيها من جدل مستعر يرضي فتونه.

ولزم أهل الكلام زمنًا، ثم عدل عنهم إلى الحلقات الأخرى.. فقد اكتشف عندما نضج أن السلف كانوا أعلم بأصول العقائد ولم يجادلوا فيها، فلا خير في هذا الجدل، ومن الخير أن يهتم بالتفقه في القرآن الكريم والحديث.

وانتهت به رحلاته بين البصرة والكوفة إلى العودة إلى موطنه بالكوفة، وإلى الاستقرار في حلقات الفقه، لمواجهة الأقضية الحديثة التي استُحدثت في عصره، ولدراسة طرائق استنباط الأحكام.

وكان أبوه قد مات، وترك له بالكوفة متجرًا كبيرًا للحرير يدر عليه ربحًا ضخمًا، فرأى أبو حنيفة أن يشرك معه تاجرًا آخر؛ ليكون لديه من الوقت ما يكفي لطلب العلم وللتفقه في الدين ولإعمال الفكر في استنباط الأحكام..

ودرس على عدة شيوخ في مسجد الكوفة، ثم استقر عند شيخ واحد فلزمه.. حتى إذا ما ألمَّ بالشيخ ما جعله يغيب عن الكوفة، نصب أبا حنيفة شيخًا على الحلقة حتى يعود.. وكانت نفس أبي حنيفة تنازعه أن يستقل هو بحلقة، ولكنه عندما جلس مكان أستاذه سُئل في مسائل لم تعرض له من قبل فأجاب عليها، وكانت ستين مسألة، وعندما عاد شيخه عرض عليه الإجابات، فوافقه على أربعين، وخالفه في عشرين، فأقسم أبو حنيفة ألا يفارق شيخه حتى يموت.

ومات الشيخ وأبو حنيفة في الأربعين، فأصبح أبو حنيفة شيخًَا للحلقة، وكان دارس علماء آخرين في رحلات إلى البصرة وإلى مكة والمدينة خلال الحج والزيارة وأفاد من علمهم، وبادلهم الرأي، ونشأت بينه وبين بعضهم مودَّات، كما انفجرت خصومات.

ووزَّع وقته بين التجارة والعلم، وأفادته التجارة في الفقه، ووضع أصول التعامل التجاري على أساس وطيد من الدين، وكان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - مثله الأعلى في التجارة: حسن التعامل، والتقوى، والربح المعقول الذي يدفع شبهة الربا، وجاءته امرأة تبيع له ثوبًا من الحرير وطلبت مائة ثمنًا له، وعندما فحص الثوب قال لها: هو خير من ذلك. فزادت مائة.. ثم زادت حتى طلبت أربعمائة، فقال لها: هو خير من ذلك. فقالت: أتهزأ بي؟ فقال لها: هاتِ رجلاً يقومه. فجاءت برجل فقومه بخمسمائة!!

وأرادت امرأة أخرى أن تشتري منه ثوبًا فقال: خذيه بأربعة دراهم. فقالت له: لا تسخر مني وأنا عجوز. فقال لها: إني اشتريت ثوبين فبعته أحدهما برأس المال إلا أربعة دراهم، فبقي هذا الثوب على أربعة دراهم!!

وذهب إلى حلقة العلم يومًا، وترك شريكه في المتجر، وأعلمه أن ثوبًا معينًا من الحرير به عيب خفي، وأن عليه أن يوضح العيب لمن يشتريه، أما الشريك فباع الثوب دون أن يوضح العيب! وظل أبو حنيفة يبحث عن المشتري؛ ليدله على العيب ويرد إليه بعض الثمن، ولكنه لم يجده، فتصدق بثمن الثوب كله، وانفصل عن شريكه! بهذا الحرج كان يتعامل في تجارته مع الناس، وفي فهمه للنصوص، وفي استنباطه للقواعد والأحكام..

وعلى الرغم من أنه كان يكسب أرباحًا طائلة، فقد كان لا يكنز المال، فهو ينفق أمواله على الفقراء من أصدقائه وتلاميذه، يحتفظ بما يكفيه لنفقة عام ويوزع الباقي على الفقراء والمعسرين، فإذا عرف أن أحدًا في ضيق، أسرع إليه وألقى إليه بصرة على بابه، ونبهه إلى أنه وضع على بابه شيئًا، ويسرع قبل أن يفتح صاحب الحاجة الصرة.

وكان على ورعه وتقواه واسع الأفق مع المخطئين، كان له جار يسكر في الليل ويرفع عقيرته بالغناء:

أضاعوني وأي فتي أضاعوا *** ليوم كريهة وسداد ثغر

وكان صوت الجار يفسد الليل على أبي حنيفة، حتى إذا كانت ليلة سكت فيها صوت الجار السكير، فلما أصبح الصباح سأل عنه فعلم أنه في السجن متَّهمًا بالسكر، فركب أبو حنيفة إلى الوالي فأطلق سراح السكير، وعندما عادا معًا سأله أبو حنيفة: يا فتى هل أضعناك؟ فقال له: بل حفظتني رعاك الله. وما زال به أبو حنيفة حتى أقلع عن الخمر وأصبح من رواد حلقات العلم، ثم تفقه وصار من فقهاء الكوفة.

***

وكان أبو حنيفة يدعو أصحابه إلى الاهتمام بمظهرهم.. وكان إذا أقام للصلاة لبس أفخر ثيابه وتعطر؛ لأنه سيقف بين يدي الله، ورأى مرة أحد جلسائه في ثياب رثة، فدس في يده ألف درهم وهمس: أصلح بها حالك. فقال الرجل: لست أحتاج إليها وأنا موسر وإنما هو الزهد في الدنيا. فقال أبو حنيفة: أما بلغك الحديث: إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده.

وكان شديد التواضع، كثير الصمت، يقتصد في الكلام، ولا يقول إلا إذا سُئل، وإذا أغلظ إليه أحد أثناء الجدال صبر عليه، وإذا دخلت إليه امرأة تستفتيه قام من الحلقة وأسدل دونها سترًا؛ ليحفظها من عيون الرجال، وأجابها عما تسأل، نبع هذا التقدير الكبير للمرأة من حبه العميق لأمه، وحرصه الدائب على أن يرضيها، ثم مِن فهمه الواعي للإسلام، واتباعه اليقظ للسنة، واجتهاداته الذكية، وقد قاده اجتهاده إلى الإفتاء بأن الإسلام يبيح للمرأة حق تولي كل الوظائف العامة بلا استثناء.. حتى القضاء!

ولقد كان في حرصه على إرضاء أمه يحملها على دابة، ويسير بها الأميال، لتصلي خلف أحد الفقهاء يرى هو نفسه أن أبا حنيفة أفضل منه؛ لأن الأم كانت تعتقد بفضل ذلك الفقيه! وكانت الأم لا ترضى بفتوى ابنها أحيانًا، فتأمره أن يحملها إلى أحد الوعاظ، فيقودها إليه عن طيب خاطر.. ولقد قال لها الواعظ يومًا: كيف أفتيك ومعك فقيه الكوفة؟ ومع ذلك فقد ظل أبو حنيفة حريصًا على إرضائها، لا يرد لها طلبًا، حتى إذا عذب في سبيل رأيه، طلبت منه أمه أن يتفرغ للتجارة وينصرف عن الفقه، وقالت له: ما خير علم يصيبك بهذا الضياع؟ فقال لها: إنهم يريدونني على الدنيا وأنا أريد الآخرة، وإنني أختار عذابهم على عذاب الله، ولكم تحمل أبو حنيفة من عذاب!!

قالوا عنه:

قال عنه الشافعي: الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة.

وقال عنه النضر بن شميل: كان الناس نيامًا في الفقه حتى أيقظهم أبو حنيفة.

وقيل: لو وُزن علم الإمام أبي حنيفة بعلم أهل زمانه؛ لرجح علمه عليهم.

وقال عنه ابن المبارك: ما رأيت في الفقه مثل أبي حنيفة.

وقال عنه يزيد بن هارون: ما رأيت أحدًا أحلم من أبي حنيفة.

رحم الله الإمام الأعظم أبا حنيفة النعمان

المصادر للأمانة العلمية ولمن أراد الرجوع :

سير أعلام النبلاء

تهذيب التهذيب

البداية والنهاية

تهذيب الأسماءواللغات

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق