أمل دنقل أسم غريب ويشد انتباه كل من يسمعه, لعله يتساءل عن معني كلمة دنقل ولعله ايضا لا يعرف من هو امل دنقل ويتبادر الي الذهن من سماع الاسم لاول مره انه اسم لفتاة وهذا بالطبع لمن لا يعرف امل دنقل, انه في حقيقة الامر اسم لرجل , لشاعر, وكاتب, ومناضل , اي انه اسم يجب ان يعرفه كل ابناء وشباب مصر, بل يجب ان يضمنوا قصائده واشعاره في الكتب المدرسيه ليتعلم منه اجيال المستقبل في مصر, يتعلمون كيف كان انسانا وكيف كان فنانا؟, والكثيرون من الادباء والشعراء يعرفون ما هي مكانة امل دنقل في الشعر العربي وانه حقا غني عن التعريف لمثل هذه الفئة من النقاد والكتاب والادباء العظام, ولد امل دنقل سنه 1940 بقرية القلعة مركز قفط في محافظة قنا في صعيد مصر و توفي سنة 1983 اي انه عاش 43 سنة فقط و تزوج من الصحفية عبله الرويني .ولقد اسماه والده امل لانه ولد في السنة التي فاز بها والده بجائزة اجازة العالمية وكان والده من علماء الازهر ولهذا فالقارئ لقصائد امل دنقل يجده تأثر بهذا تأثرا ملحوظاو توفي والده وهو في العاشرة من عمره وعندما انهي دراسته الثانوية التحق بكلية الاداب جامعة القاهرة ولكنه لم يكمل الدراسة بها وعمل بعدة وظائف تركها جميعا لانصرافه الي الشعر وولعه به. صدرت له ست مجموعات شعرية هي:
• البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" - بيروت 1969,
• تعليق على ما حدث" - بيروت 1971,
• مقتل القمر" - بيروت 1974,
• العهد الآتي" - بيروت 1975,
• أقوال جديدة عن حرب البسوس" - القاهرة 1983,
• أوراق الغرفة 8" - القاهرة 1983
ونجده يكتب شعره باللغة العربية الفصحي ونجده في قصيدة لا تصالح :
لاتصالح علي الدم حتي بدم
لا تصالح علي الراس حتي برأس
أكل الرؤؤس سواء
أقلب الغريب كقلب أخيك؟!
أعيناه عينا أخيك؟!
وهل تتساوى يدٌ.. سيفها كان لك
بيدٍ سيفها أثْكَلك؟"
"لا تصالح
ان في القصيدة مسحة حزن عميقة, انه رافض لمبدأ المصالحة الذي نصت عليه المعاهدات التي تتم بين البلدان . انه يرفض الاستهانة بدم وكرامة المقتولين المهدورة حقوقهم وفي نهاية المطاف تتم المصالحة كأن شيئا لم يكن, انه يغير علي دماء ابناء وطنه ويستنكر هذا الفعل.
ونجده في سفر الخروج يقول: (أغنية الكعكة الحجرية)
(الإصحاح الأول)
أيها الواقِفونَ على حافةِ المذبحهْ
أَشهِروا الأَسلِحهْ!
سَقطَ الموتُ; وانفرطَ القلبُ كالمسبحَهْ.
والدمُ انسابَ فوقَ الوِشاحْ!
المنَازلُ أضرحَةٌ,
والزنازن أضرحَةٌ,
والمدَى.. أضرِحهْ
فارفَعوا الأسلِحهْ
واتبَعُوني!
أنا نَدَمُ الغَدِ والبارحهْ
رايتي: عظمتان.. وجُمْجُمهْ,
وشِعاري: الصَّباح
وهنا نجده يتالم ألما شديدا ونحس بألمه وننتفض معه عندما نحس بالقلب الذي ينفرط كالمسبحة, اي ينفرط شيئا فشيئا فيزداد الالم ونحس بمدي الدمار الذي يملأ المكان, فكل مكان: المنازل والزنازن اصبحت اضرحة واماكن للموت وفقط ولعلنا نلمح تاثره بالمظاهر الدينية في كلمه المسبحةو استخدامه لكلمة انساب تدل علي التدفق الهائل للدم وغزارته وجاء الاختيار موفق, ان امل دنقل يعرف ماذا يكتب بالضبط ويعلم ايضا كيفية اختيار الصور المعبرة المؤثرة في النفس, فتجد نفسك بدون تردد تحس بجميع الصور والمظاهر الشعرية في القصيدة وتلمس معه القضية التي يريدك ان تلتفت اليها وكل ذلك في اطار الفصحي لا يخرج عنه و استخدم صورة الراية: عظمتان وجمجمة ليعطي احساس بالقراصنة, اي اخذ الشئ بالقوة والعنوة . ونجد ان امل دنقل ايضا يختار عناوين قصائده بدقة فائقة فهي تزيد من الحميمية القائمة بين القارئ والقصيدة وتقسيمه للقصائد بعدة اصحاحات وكأنها عدة لحظات او مواقف مختلفة وامثلة متنوعة للفكرة التي يريد ان يعبر عنها.
فنحن نجد انفسنا نعيش القصيدة معه ونحس باحاسيسه عند كتابتها فلقد ابكانا بكاءه في قصيدته
البكاء بين يدي زرقاء اليمامه : أسأل يا زرقاءْ ..
عن فمكِ الياقوتِ عن، نبوءة العذراء
عن ساعدي المقطوع.. وهو ما يزال ممسكاً بالراية المنكَّسة
عن صور الأطفال في الخوذات.. ملقاةً على الصحراء
عن جاريَ الذي يَهُمُّ بارتشاف الماء..
فيثقب الرصاصُ رأسَه .. في لحظة الملامسة !
عن الفم المحشوِّ بالرمال والدماء
ففي هذه القصيدة الصور اقرب الي البشاعة والوصف شديد القرب بالواقع, لقد اختزل الصور في كلمات قليلة معبرة تعبيرا صارخا عن فكرة القتل والدم والاهانة البشرية فنجدنا نبكي ونصعق من صورة الرجل الذي كان يهم بارتشاف الماء فثقبت الرصاصة راسه وليس ذلك فقط ولكن في اللحظة التي جاء يلامس فيها فمه الملطخ بالرمال من الزحف الماء ومن الدم الذي يعبر عن كثرة الضرب فيستكثر عليه كل ذلك ويحرمه من رشفة الماء قبل الموت فبعد كل العناء لم يرشف ولو رشفة واحدة فجاءت لفظة يرشف مناسبة بل ومعبرة جدا عن الموقف . وان مثل هذه القصائد ايضا تعكس مدي ثقافة الشاعر حيث انه ادخل لمحة من حياة زرقاء اليمامه التي قتلها الاعداء لنظرها الثاقب والتي لم يصدقها احد من اهلها.
ونجد ان الصورة بها بعض من الفجاجة والقسوه فنجده يقول في قصيده الموت في لوحات (3) و حين ضاجعت أباها ليلة الرعد
تفجّرت بالخصب و الوعد
و اختلجت في طينها بشارة التكوين !
لكنّها نادت أباها في الصباح ..
فظلّ صامتا !
هزّته .. كان ميّتا
فيالها من صوره ويالها من نهاية فانها ليلة الرعد اي الاعاصير والاصوات المفجعة المفزعة وليلة الخوف والبرق في السماء الذي دائما ما يصاحب الرعد وفي الصباح تجد الصدمة الهائلة الموت قد جاء فاي صوره تلك التى يكتبها هذا الشاعر ؟!
ونجده في قصيدة كلمات سبارتاكوس الاخيرة يحكي قصة هذا الرجل الاسطورة في كلمات قليلة ايضا ويقول من قال لا في وجه من قالوا نعم, لقد لخص كل الموقف, لقد حسم موقف سبارتاكوس و فى هذا احالة الى ان من سيقول لا في وجه هؤلاء سيلاقي نفس المصير فيجب ان تكون مستعدا لمثل ذلك ونجده في المزج الرابع يختتم القصيده باشهر بيتين معروفين عن امل دنقل يلخصوا القضايا كلها والظلم البين للحكام فيقول:
يا اخوتي الذين يعبرون في الميدان في انحناء
منحدرين في نهاية المساء
لا تحلموا بعالم سعيد ..
فخلف كلّ قيصر يموت : قيصر جديد
ولقد لازم مرض السرطان امل دنقل اكثر من ثلاث سنوات وبالرغم من ذلك لم يتوقف عن عشقه الاول وهو الشعر فنجده يكتب قصيدة ضد من ويقول واصفا غرفة الانعاش والاطباء وحالة المرض واستياءه منه :
في غُرَفِ العمليات,
كان نِقابُ الأطباءِ أبيضَ,
لونُ المعاطفِ أبيض,
تاجُ الحكيماتِ أبيضَ, أرديةُ الراهبات,
الملاءاتُ,
لونُ الأسرّةِ, أربطةُ الشاشِ والقُطْن,
قرصُ المنوِّمِ, أُنبوبةُ المَصْلِ,
كوبُ اللَّبن,
كلُّ هذا يُشيعُ بِقَلْبي الوَهَنْ
. كلُّ هذا البياضِ يذكِّرني بالكَفَنْ!
فنجده يصف حال المريض الذي لا يجب ان يشعره الناس بمرضه فيكفيه انه يحس ويستشعر الام المرض اللعين و لا يشعر بالمرض الا المريض نفسه فلعلها رسالة لنا كيف نتعامل مع المرضي؟! ومهما تحدثنا عن امل دنقل واشعاره ومدحناه وقلنا عنه كما قال عن نفسه الجنوبي فيكفينا فخرا انه من اهل مصر ومن بلدنا . وكما كتب عنه الشاعر عبد المعطي حجازي لقد جعل صراع الموت والشعر متكافئين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق