سجل إعجابك بصفحتنا على الفيس بوك لتصلك جميع مقالاتنا

بحث فى الموضوعات

السبت، 30 أغسطس 2014

قصة قصيرة: المتشرد بقلم/ منال عبد الحميد ( سلسلة حكايات غريبة)


دخلت إلى قاعة المطعم بالفندق العتيق الفخم .. فلم أجد صديقي بانتظاري كما وعدني ! 

تضايقت من هذا الأمر جداً وكدت أنصرف .. ولكنني فكرت قليلاً ، وعدت أدراجي من عند باب الفندق بعد أن كدت أغادر بالفعل .. وتذكرت أنني يجب أن أعذر " ممدوح " العزيز .. فهو طوال عمره نذل ومعتاد على إخلاف مواعيده بشكل يجعل وفاءه بأي موعد يستدعي مصرع مئة يهودي على الأقل ! 

جلست إلى منضدة صغيرة لطيفة بجوار نافذة ضخمة تطل على بانوراما للقاهرة الأوربية الخنفاء .. أخذت أتطلع من النافذة بضع ثوان ، حتى وجدت خادم يمر بجواري فاستوقفته ، وطلبت منه إحضار كوب من الليمون فوراً .. ذهب الخادم ليأتي بما طلبته .. وعدت أنا لتأمل البانوراما القاهرية الرائعة من خلال النافذة .. نظرت إلى ساعتي فوجدت أنها العاشرة والثلث مساء .. ساعة كاملة مرت على الموعد الذي ضربه سي " ممدوح " لي هنا دون أن يحضر بسلامته .. جاء الخادم بالليمون ، فاحتسيته ببطء متعمد .. ثم عدت للنظر إلى الساعة فوجدت أنها تعدت الحادية عشرة ! 

" الله يخرب بيتك يا ممدوح " 

قلت ذلك في سري وأنا أصر على أسناني غيظاً وغلاً .. وفجأة قررت أن أغادر مهما كانت النتائج ! 

وبالفعل جمعت حاجاتي .. مجرد الموبايل وعلبة المناديل ؛ التي وضعتها على المنضدة أمامي ؛ وضعتهما في جيبي ، ونهضت من مكاني ، بعد أن تركت ثمن المشروب وبقشيش محترم على المنضدة .. اتجهت نحو باب الفندق في نفس اللحظة رأيت فتاة شقراء جميلة تدلف من الباب .. كانت الفتاة رائعة الجمال حقاً ( تحل من على المشنقة يعني ) وسعدت لرؤيتها هذا المساء الرطب .. ولكنها للأسف كانت تتأبط ذراع شاب فارع بسلسلة ولبانة وترافقه إلى داخل المطعم .. كنت بالضبط قد أصبحت خارج الفندق عندما خطر لي فجأة خاطر غريب .. أحسست فجأة أنني قد رأيت هذه الفتاة من قبل ، رأيتها وأعرفها جيداً .. نفضت رأسي محاولاً تذكر أين رأيتها ومتى فلم أفلح .. شيء واحد أصبحت على ثقة منه .. أنني قد رأيت هذه الفتاة من قبل ، رأيتها وأعرفها جيداً ، بل وأعرف الشاب المائع الذي يرافقها .. أعرفهما جيداً .. بل وأعرف ما سيحدث الآن داخل الفندق .. أعرفه ويجب أن أمنعه ! 

************ 

دخلت وراءهما إلى قاعة المطعم .. فوجدت الشاب المائع يسحب كرسياً ويقدمه للفتاة بحركة أنيقة تعبر عن شياكته وأناقته .. جلست الفتاة معبرة عن شكرها له بهزة رأس فاتنة فاهتز شعرها المنسدل الجميل .. بينما ابتسمت أنا باستهانة وقلت في نفسي بغيظ : 

" عفواً يا صديقي .. تظاهر كما شئت .. ولكنني أعرف ماذا سيصدر منك بعد قليل ! " 

بالفعل كنت أعرف ماذا سيحدث الآن .. قل أنني مجنون أو خيالي أو معتوه .. قل ما شئت وبرر كيفما شئت .. ولكنني متأكد أنني قد رأيت هذا المشهد من قبل .. رأيته وعشته بكل تفاصيله ، بأدق تفاصيله .. وإذا كنت في المرة السابقة وقفت متفرجاً ولم أستطع أن أمنع هذه الجريمة التي ستقع الآن ؛ مرة أخرى ؛ تحت سمعي وبصري .. فأنني هذه المرة سأتدخل وأوقف الأمر ولو حملني ذلك على ارتكاب جريمة .. فما أبشع أن تري جريمة ترتكب أمامك .. مرة ثانية ! 

************ 

بالفعل ؛ وكما أعرف مما رأيته بعيني سابقاً ؛ جلست الفتاة وجلس الولد المفعوص أمامها .. ولم تمض لحظة حتى تشابكت أيديهما واقتربت رؤوسهما من بعضها وانهمكا في محادثة هامسة تلمح من خلالها دلائل وعلامات الحب العميق الذي تكنه الفتاة لهذا الولد الذي يشبه الخضار المسلوق بدون ملح .. 

وبعد دقيقة جاء الخادم نحوهما وسألهما عن طلباتهما .. وسمعت صوت الفتاة يهمس كالنسيم طالبة كوباً من عصير البرتقال ، بينما طلب الشاب بصوته المزعج طبقاً من اللحم المشوي ومكرونة وسلطة طحينة وسلطة خضراء وأخيراً كوب من عصير المانجو الطبيعي .. كل ذلك طلبه في نفس واحد وكأنه كان يعمل وابور زلط من قبل ! 

المهم ذهب خادم الفندق لإحضار الطلبات .. وعاد الشابان لهمسهما الخفيض الملتهب .. وكنت في أثناء تبادلهما الهمس ألقي بأذني معهما محاولاً سماع ما يقولان .. ليس لشيء ولكن لأعرف متى تحين اللحظة الحاسمة التي يجب على عندها أن أبدأ التحرك لحماية الفتاة من الخطر الذي يحيق بها والتي هي غافلة تماماً عنه .. ولئلا يتهمني أحدكم بالجنون فسأسرد عليكم الآن تفاصيل ما سيحدث .. التفاصيل الدقيقة ، أدق التفاصيل .. لتعرفا أنني رأيت هذا الموقف من قبل بكل تفاصيله .. بعد دقائق ؛ دقيقتين بالتحديد ؛ سيعود النادل حاملاً الطلبات التي طلبتها الفتاة والشاب رفيقها ، ثم سيضعها أمامهما على المنضدة وينصرف لحاله ؛ بعدها سيقبل الشاب على طعامه وكأنه غول جائع .. ويظل يأكل ويأكل بشكل مقزز بينما ترمقه الفتاة بنظراتها المندهشة المشمئزة طويلاً .. وأخيرا يصل إلى كوب المانجو ، فيتناوله بيدين غليظتين ؛ ويأخذ في ارتشافه بصوت يلفت انتباه كل الموجودين في قاعة المطعم فيرمقون الفتي ورفيقته بنظرتهم الساخرة المقتحمة .. وهنا تخجل الفتاة وتهمس لرفيقها طالبة منه الالتزام بأصول الإتيكيت أثناء شربه للعصير .. فتثور ثائرة الشاب ؛ الذي قدت أعصابه من نار ؛ ويدخل معها في مناقشة حامية ؛ بل خناقة حامية ؛ يتهمها خلالها بأنها تتعالى عليه .. وكلمة من هنا وكلمة من هناك ( وملعون أبوكي وأبو الإتيكيت يا بنت الشحاتين ) .. وقبل أن يتمكن أحد من التدخل يكون الفتي الثائر قد ألتقط سكين المائدة الفضية الموجودة أمامه وأغمدها في رقبة الفتاة .. قبل أن يستطيع أحد التدخل لإيقافه ! 

هذا هو ؛ بالضبط ؛ ما سيحدث الآن .. الفارق الوحيد هو أنني موجود هنا الآن .. ولن أنتظر حتى تحدث المذبحة وسأتدخل في الوقت المناسب ولن أمكن هذا الولد المائع السفيه من ذبح هذا الملاك الرقيق الذي يرافقه .. 

ربما أكون مجنوناً في نظركم .. وربما أكون كذلك في نظر نفسي أيضاً .. ربما كان هذا خبل ؛ خيال مريض ؛ جنون .. ربما يكون أي شيء .. ولكن ما سيكون رأيكم إذا تسني لكم أن تروا الشاب الآن وقد أقبل على طعامه ؛ الذي أحضره إليه النادل لتوه ؛ كالغول وبدأ يأكل بأسلوب مقزز .. والفتاة قد بدأت ترمقه بنظراتها المندهشة المشمئزة بالفعل ! 

************ 

أخذ الدم يغلي في عروقي كلما أوشك الفتي على إنهاء الطعام .. فقد كان معني هذا أن اللحظة الحاسمة قد دنت .. دنت جداً .. وعندما قبضت أصابعه على كوب العصير بدأ قلبي يدق دقات سريعة متلاحقة .. وصعد الدم إلى رأسي .. أما عندما فتحت الفتاة فمها معترضة على أسلوب رفيقها المقزز في رشف العصير أخذ صوت الدم والنبض يقرعان في أذني .. وبالفعل : 

" أنت متقدرش تشرب من غير صوت ؟! " 

" من غير صوت أزاي يعني .. أشرب بالهزاز ؟!!!" 

" لا .. بس على الأقل متعملش صوت .. الناس كلها بتبص علينا " 

" خلي اللي يبص يبص .. هو إحنا تلامذة في مدرسة لا مؤاخذة .. دا أحنا قاعدين بفلوسنا يا ماما ! " 

واحتدمت المعركة .. وتطايرت الكلمات الغاضبة من الجانبين .. ومال الفتي نحو الفتاة وهمس لها بشيء ما بغيظ ، ثم تراجع في مقعده .. وهنا لمحت أصابع الفتي تتسلل نحو طبق اللحم المشوي الفارغ الذي كانت السكين فوقه .. وهنا هببت من فوق مقعدي كالإعصار ؛ فلم يعد هناك وقت ؛ نهضت بسرعة واتجهت نحو منضدة الشابين .. ودون كلام قبضت على يده الممدودة أمامه ولويتها في غل .. صرخت الفتاة بينما أندهش الفتي للحظة .. ولكنه نهض من مكانه بسرعة وخلص يده من قبضتي ، ثم كال لي لكمة قوية هشمت أنفي ، فتدفق منها الدم .. وهنا وصلت لقمة غضبي فأنهلت عليه بلكمات عديدة متوالية سريعة ، أفقدته توازنه وأسقطته فوق المنضدة .. صرخت الفتاة ونهضت بسرعة مبتعدة عن المنضدة .. بينما أخذت أنا أكيل اللكمات لذلك السفاح الحقير .. وبعد أن أثخنته بالكلمات المتعاقبة لويت ذراعه خلف ظهره لأقيده وأمنعه من إلحاق الأذى بي أو بالفتاة .. جاء أمن الفندق وحاولوا فض الاشتباك .. ولكن الفتي مد يده الأخرى الطليقة والتقط السكين وحاول أن يغمدها في أي مكان من جسدي .. ولكني رأيته ؛ لحسن الحظ ؛ في الوقت المناسب وتفاديتها ببراعة .. وأمسكت ذراعه الأخرى ولويتها أيضاً خلف ظهره بقسوة .. وهنا سمعت ؛ بل سمعنا جميعاً ؛ صرخة ألم هائلة صادرة من حنجرة الفتي القوية .. كانت السكين قد اخترقت ظهر الفتي من الخلف .. تركته فسقط على الأرض وهو يصرخ ألماً ويتلوى بجنون .. أحاط بي رجال أمن الفندق وامسكوني وقيدوا يدي خلف ظهري .. أما الفتاة فقد انحنت على الفتي الراقد على الأرض وأخذت تصرخ بجنون طالبة الإسعاف .. من جانبي لم أكن أشعر بأي خوف .. فأنا لست مجرماً .. بل على العكس فقد أرسلني القدر ؛ مرة ثانية ؛ لأمنع جريمة بشعة وأنقذ ضحية بريئة ! 

************ 

أستمر التحقيق معي طوال الليل .. حضر أبي وخالي " رأفت " وأخي " فريد " وكذلك صديقي " ممدوح " .. كانوا جميعاً في دهشة من هذا الأمر ، ولم يستطع أحدهم أن يقدم تفسيراً لاعتدائي على شاب لا أعرفه حتى الموت ! 

لم يقتنع المحقق بمبرراتي واعتبرها هراء أو نوع من ادعاء الجنون وسألني مراراً عما إذا كنت أعرف الفتاة أو تربطني بها أي علاقة .. نفيت ذلك بشدة ، وكذلك نفت الفتاة ، وكلانا على حق .. فبالفعل لم يكن أحدنا يعرف الآخر مطلقا ورغم أنني حاولت تذكيرها بلقائنا السابق في نفس هذا المكان وفي نفس تلك الظروف ، إلا إنها نفت تماماً أن تكون قد رأتني من قبل في حياتها واتهمتني بالجنون .. الأصعب على أنها ألقت بقنبلة زلزلت كياني .. فلم يكن الفتي رفيقها بل كان زوجها ووالد أبنها ذو الأربعة أعوام ! 

في اليوم التالي قرر وكيل النيابة عرضي على طبيب مختص للكشف عليَّ وتحديد مدى سلامة قواي العقلية ! 

************ 

تم اقتيادي إلى السجن لأقضي فيه فترة حبسي على ذمة القضية .. لم أندهش لشيء مما رأيته في السجن .. فبداية من البوابة الرمادية الضخمة ، وأوجه الحرس المخيفة التي لوحتها الشمس ، وعنابر السجن الواسعة الكئيبة الموحشة المظلمة ، وحتى وجوه المساجين الغبية البليدة .. كلها .. كلها كانت مألوفة لي بشكل ما .. وكنت واثقاً ؛ قبل مرور نصف ساعة على بقائي في هذا المكان الرهيب ؛ إن هذا المكان ليس غريباً على .. فلقد رأيته ، رأيته وعشت فيه ومررت بكل تفاصيله من قبل .. متى ؟! 

في عالم آخر .. في زمن آخر .. في حياة أخري ؟! 

ربما .. ولكن المؤكد أنه لا شيء مما أراه الآن جديد أو غريب .. بل كله مألوف .. مألوف بشكل مثير للضجر ! 

************ 

بدأت جلسات محاكمتي المملة .. كانت التهمة الموجهة لي بناءً على تكييف النيابة هي القتل العمد .. بينما أنحصر هم المحامي الشهير الذي وكلته لي أسرتي في تغيير الوصف القانوني لقضيتي من قتل عمد إلى قتل خطأ .. لأن ذلك قد يترتب عليه تحويل العقوبة المقررة من إعدام أو أشغال شاقة مؤبدة إلى سجن تتراوح مدته بين خمسة أو سبعة أعوام ! 

كنت كل بضعة أيام .. أمضي وسط حراسة إلى المحكمة لأحضر جلسة طويلة مرهقة مملة .. مملة لأنها مألوفة .. مألوفة على نحو يغيظ ويثير الغليان في دمي ! 

هل من المعقول أن أكون قد عشت كل هذه الأحداث من قبل .. لا مستحيل ! 

وإذن لماذا يبدو لي وكأنني عشتها .. وكأنني مررت بها من قبل .. حتى أبسط التفاصيل وأغربها وأبعدها عن مجال حياتي اليومية ؛ بشكل يجعل من المستحيل أن أكون على علم بها ؛ هي أيضاً كانت تبدو لي مألوفة ! والآن أنا أقبع في زنزانتي منتظراً حكم المحكمة الفاصل غداً .. ولا أريد أن أقول لكم أنني أخشي إذا ما نطق القاضي بالحكم أن يكون مألوفاً هو الآخر !

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق