سجل إعجابك بصفحتنا على الفيس بوك لتصلك جميع مقالاتنا

بحث فى الموضوعات

السبت، 15 مارس 2014

القصة القصيرة: مقام الولي المزعوم بقلم/ عيسى ناصري "من المغرب"

امرأتان تلتفعان ملاءتيهما، وتقصدان الولي الصّالح للتبرّك. الولي المزعوم يقع تحت تلّة هائلة تفصل بين مدشرين كبيرين. المدشران ينتسبان إلى قبيلة واحدة. القبيلة الجبلية تشتعل فيها صراعات طاحنة بين ساكنة المدشر الأول والثاني. الأول شمال التلّ يدعى مدشر آل عبدو، والثاني على يسار التلّ يعرف بمدشر آل عمو.

تداولت المرأتان أسئلة عن سبب الزيارة. المرأة العجوز من آل عمّو تستدر بركة الولي ليعود إليها ابنها الذي ابتلعته المدينة. الشابة من آل عبدو تسجدي الولي خطيبا، وتستعطفه لطرد تابعة النحس المحلقة في سمائها.

حكت المرأة الشابة بإعجاب عن كرامات الولي وقدراته الخارقة في قضاء المآرب، وإشفاء المرضى، و إبعاد النحس واللعنة، وطرد أسباب الشر، والنصر على الأعادي...

حكت العجوز بإطناب عن تاريخ هذا الولي المزعوم، وعادت بالشابة خمس عشرة سنة إلى الوراء: قالت إن هذا المكان يشهد على وضع حجر أساس لمشروع طريق تصل القبيلة بالمدينة البعيدة. إن هذه الشاهدة العالية عند رأس الولي الوهمي نصبُ تذكار بني بالاسمنت المسلح ليكون نقطة إطلاق مشروع الطريق المعبدة. أمام هذا النصب وقف وزير فارع القامة ذات يوم ودق عليه بمطرقة، فدقت الطبول ولعلعت الحناجر بالزغاريد فرحا بالمولود القادم، ودقت ساعة وليمة الغذاء التي دقت لأجلها أعناق خمسة عشر كبشا أقرن قبل أن تشتوى.

انتقل الوزير لوزارة أخرى، والحكومة تغيرت، وشيء من هذا النصب التذكاري لم يتغير، فقط صار مجمع الرعاة عند الغروب، ومزار العشاق ليلا، ومنام المشردين، قبل أن يتحول إلى ولي صالح بين ضحى وعشيّ. انتظر سكان القبيلة الطريق لتأتي إليهم من المدينة معبدة، وطال انتظارهم لسنوات فاقت العشر.

الشابة تلتمع عيناها استغرابا أمام العجوز المتغضنة التقاسيم، قاطعتها واستفسرت عن سبب بناء التذكار في هذا الخلاء تحت ذلك التلّ الموحش بعيدا عن المدْشَرين. تبسمت العجوز وواصلت. قالت إنّ المدشرين المتعاركين إلى يومهما ذاك، تنازعا حول شرف ضيافة الوزير في مدشرهم. لجؤوا إلى حكيم، زوج العجوز بالمناسبة. نصحهم بالبحث عن ديك لم يطأ تلك البقاع ليذهبوا به إلى أعلى التل، ويخلوا سبيله، والمدشر الذي سيلوذ إليه الديك هو الذي سيحظى بشرف استضافة السّيد الوزير. طبّقوا ما أفتى به الشيخ بالحرف. غير أنه في اللحظة التي بلغ فيها الديك الوديك إلى أسفل التلة، هوى عليه صقر فأخذه على متن مخلبه إلى عنان السّماء. لم يحزنوا على ذلك بل بشرهم الحكيم بأن الوديك لم يكن إلّا قربانا اتقت به القبيلة شرّا مسطورا وهلاكا منذورا. إضافة إلى أنه دلهم على مكان الاستقبال. فشيد النصب هناك في العراء، ليكون نقطة انطلاق المشروع، ومعه نصبت خيام الولائم.

هوذا النصب متألق في عيني العجوز بكتاباته المنحوتة التي طمست وبصمات مطرقة الوزير التي درست. لقد كان بشارة خيرعلى إصلاح ذات البين بين المدشرين المتطاحنين، وإعلان هدنة بينهما. ولا زال آل عبدو يرفضون تزويج نسائهم لرجال آل عمّو.

النصب المتألق في عيني الشابة لا زال يبدو كما شاهدة قبر. لقد رويت عنه أساطير كثيرة. ثبت في وجدان السّاكنة أنه قبر لولي صالح جال المشرق والمغرب، رجل لازم العبادة والخلوة في زهد وتقشف. تربى على حبه الصغار وقال الكبار إن زيارة ضريحه من أسباب النجاح والفلاح. كثر زواره وباتوا يأتونه من بعيد للتبرك، حتى من أقاصي المدن وأقربها. يذبحون له القرابين ويغمرونه بقطع النقود الصفراء. لقد بني حول مجسم القبر سور في الأول، ثم غطي بساقفة خشبية، قبل أن تبنى له قبّة عالية تلمح من بعيد.

سيعود ابني، تمتمت العجوز قبل أن تواصل: سيعود ولدي وسأزوجك به يا فتاة رغما عن أنف "آل عبدو"، بعد أن يزول عنك النحس الذي يلاحقك، وتزول حدبة الوزير. كل هذا متعلق بكرامات هذا الشيء الذي ننحني عليه نحن الاثنتين.

استرسلت العجوز في حماس زاد منه تساؤل الشابة عن حدبة الوزير. قالت ذات الغضون إن السيد الوزير مرض. بان مرضه في شكل حدبة على ظهره، جال مستشفيات العالم عن الدواء، قالوا إن مرضه يحتاج إلى معجزة، بحث عنها في بلدان المعجزات، عاد خائبا، ودلّوه على ولي لا كالأولياء. سار بسيارة رباعية الدفع، في طريق عبدتها الأرجل قبل السواعد، لاعنا حفرها وحدباتها وحدبته. بلغ أسفل التلة. تداعت صور ضبابية في ذاكرته فروّعته. دخل إلى قبّة الولي متخشعا بقامته الفارعة، انحنى معقوفا على أعتاب القبر يقبل أركانه الأربعة، ويتمتم ابتهالات وأذكار مما حفظه من دعوات الفقهاء لأصحاب الولائم التي يحضرها. كان يتمسح بظهره على الشاهدة... جمدت عينه هناك على الكتابات المنطمسة على الشاهدة. بدا فزعا ببشاعة أحدب نوتردام في تلك الرواية التي لم يقرأها ولا قرأتها العجوز. النصب التذكاري ذكره كيف نصب على ميزانية المشروع. الميزانية التي أكلها في بطنه، وأبت أن تهضَم، فزاغت إلى ظهره في صورة حدبة شبيهة بشكل التلة التي بني فيها مقام الولي المزعوم.

05.11.2013

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق