لم تعد سيناء مهبطا للألواح وديرا يؤوي عظام الفارين ببؤسهم من سيوف الطغاة، فاخلع نعليك أيها القادم من سفر البداوة أو لا تخلع، لن يكلمك الرب هناك، ولن تجد جذوة من النار لتصطلي من عواصف الكراهية أو زخات الخوف هناك. ستطاردك لعنات الثلج حتى آخر نفس في صدرك الضيق، وستموت دون أن يصلي عليك أحد، أو يتحرك لنجدتك أحد. ولن تجد فوق جبال الوهم نارا تصطلي بها، ولن تجد على النار هدى. يمكنك أن تخلف أهلك على وعد بلقاء، لكنك لن تعود لتشد لحية أخيك لأنه تركك في وجه الموت دون غطاء ليتكور بؤبؤا عينيك ويسلمان وعيهما للنزيف.
لن تحملك الملائكة ليبني رهبان البلاد فوق جمجمتك بيتا للعبادة، ولن يهتم بلملمة عظامك النخرة من المحلقين فوق رأسك أحد، لأنك ببساطة تحمل في جيبك جواز سفر نحو البؤس في أي بقعة، وحيثما وليت وجهك في بلاد لم تعد مقدسة، سيخطفك الموت. فاختر لنفسك ميتة تليق بثورتك العاتية، وارفع رأسك عاليا لأنه لا مفر من السقوط تحت سفح المقت والبلادة، والتدحرج من فوق جبال الأمل لتلقى جزاء سنمار.
لن تغيثك طائرات جيشك ولن تصل إليك طوافات الإنقاذ إلا بعد فوات الروح، وحين تجمد الأنفاس في رئتيك، وتظن أن لا ملجأ من الله إلا إليه، ستأتيك جمال البدو لتحمل أثقالك إلى بلد لم تعد تبكي على فراخها أو ترحب بنعوشهم الطائرة، ولن ينال لحمك المقدد أي جنازة استثنائية، وستحشر في ثلاجة الموتى مع من سبقك إلى جبال الحلم لتصبح لمن خلفك آية.
جبال كاترين ليست لأهلها أيها المغرور بكاميراتك وخيماتك، وحين تأتيك زخات الثلج من كل مكان، لن يدفع عن وجهك الموت ناخب ولا مرشح، ولن تبكي عليك الحوامات ولا أصحاب النجوم اللامعة. وحين تسقط كطائر مهيض الجناح عند سفح المهانة، لن يخف لنجدتك إعلامي ولا مخرج صديق. وحين تصرخ زوجك الواقفة عند أعتاب التيه، لن يسمع لصرختها محافظ ولا رئيس بلدية.
لكنك لست وحدك المعني بالانسحاق والصغار، فقد سبقك إلى عنبر الذل رجال وثقوا بقبضاتهم ذات ميدان، وهتفوا من أخمص أقدامهم للبعث والحرية، فكان مصيرهم مصيرك، غير أنهم لم يجدوا قافلة من البدو تلملم أشلاءهم الصغيرة، فتكوموا في حاوية نفايات كبيرة عند ناصية الوطن دون أن يتعرف على وجوههم الشاحبة أحد. وتمضي الثورة من حيث أتت، ليدير الناجون بملامحهم العاجية محرك الوطن، وينطلقوا بنا إلى حيث ألقى رحله مصطفى رضا.
لم تعد سيناء أرض المن والسلوى أيها الباحثون عن مخرج عند جبال سانت كاترين، ولن يكلمكم الله هناك جهرة أو من وراء حجاب، وستعودون سيرتكم الأخيرة في نعوش طائرة نحو السفح حيث لا ينتظركم أحد لأنكم نسيتم ظلالكم، وبنيتم صروحا من كلمات لتخاطبوا آلهة الشر وجها لوجه دون ساتر من حياء أو ستار من استحياء، فكان جزاؤكم أن طاردوكم بعصيهم ونبالهم حتى آخر حدود الأمن، فصار البحر أمامكم رهوا، لكنكم لا تمتلكون عصا تفرق البحر أو تشق لكم فيه طريقا يبسا.
أيها المصريون الواقفون على حافة اليأس والمذبحة، لا تجزعوا إن عادت إليكم نعوش الحالمين ثلوجا مقددة في توابيت لا تحمل ألواحا ولا رخص دفن. أليس الموت في سبيل الحمق أسمى أمانيكم؟ ألم تخرجوا إلى جبل المناجاة ذات صيحة ونعوشكم تلمع فوق سواعدكم الراعشة، ثم توليتم إلا قليل منكم مسربلين في أكفانكم البيضاء إلى دور يأسكم القديمة؟ ها هو الموت يأتيكم بالمجان حيثما وليتم وجوهكم، فلا تجزعوا إن أتاكم بغتة وأنتم تتجولون فوق أرض لم تعد مقدسة أبدا.
أشجار سيناء تنبت اليوم بالدماء، فكيف تريدون أن تخلعوا نعالكم فوق تربتها اللزجة، لتناجوا الرب عند ديرها القديم؟ وكيف تطمعون أن تحمل الملائكة عظامكم اليابسة في تابوت مقدس إلى مساقط أحزانكم وأنتم تحملون سبة المواطنة في جيوبكم؟ كيف تطمعون أن تخف طائرات الإنقاذ لنجدتكم وأنتم تحملون جرثومة المواطنة في بلاد لا تحترم إلا الغرباء؟ إن الموت والقهر والذل التي تفرون منه، فإنه ملاقيكم وإن كنتم فوق أرض كانت قديما مقدسة. فلا ترفعوا عند الدفن همهماتكم، وانتظروا الموت إنا معكم منتظرون.
عبد الرازق أحمد الشاعر
Shaer129@me.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق