النرويج وطن دافئ، لا تتمكن فيه الرعشات من المفاصل الصغيرة، وشعبها مستعد لخلع معاطفه عند كل محطة للركاب مهما كانت برودة الطقس أو اتجاهات الريح. ووحده طفل النرويج يستطيع أن يقف عند أي محطة غريبة دون أن يشعر بأنه خارج التاريخ أو أنه عبء على الجغرافيا، لأن الواقفين تحت مظلة الانتظار غير الممض هناك لا ينشغلون عادة بأجهزة المحمول في أياديهم عن الأنات صغيرة.
على بعد أمتار قليلة من جسد طفل يرتجف، اختبأت كاميرا واعية لتقيس دفء مشاعر أهل النرويج في الطقس البارد، فسجلت ارتفاعا ملحوظا في آدمية المواطنين رغم تدني درجات الحرارة. كانت الرياح تأتي بما لا يشتهي الواقفون تحت مظلة الانتظار من بٓرٓدٍ وزمهرير، وعلى أريكة خشبية تتوسط مسرح المواطنة، كان طفل العاشرة يفرك كفيه وأعضاءه حتى لا تتخثر الدماء في شرايينه الصغيرة، ويرتجف في مهارة حاو كي يلفت أنظار الواقفين في انتظار الحافلات العابرة.
ومر على العظام الباردة عشرات المواطنين وهم يحملون فوق أكتافهم أثقل المعاطف، ليتقوا موجة البرد القادمة من الشمال. وكلما مر أحدهم بمقعد الطفل البارد، التفت إلى الوجه المحتقن، وخلع معطفه ليلفه حول الأكتاف الراعشة. وفي كل مرة، كانت جلود المواطنين الشرفاء تشع طيبة ودفئا، ولم يمر أمام الكاميرا المختلسة قدمان من رصاص أو رأس من نحاس. كل المواطنين النرويجيين الذين وقفوا عند قدمي الغلام كانوا بشرا فوق العادة، وكانت استجاباتهم أروع من المتوقع.
وهكذا نجح النرويجيون الشرفاء في اختبار الكاميرا الخفية، وأثبتوا أنهم يستحقون ما بهم من نعمة، وأن الحواسيب والهواتف ومواقع التواصل وأفلام مصاصي الدماء لم تفقدهم براءة التعاطف مع الأحزان الصغيرة، وأنهم لا زالوا يتنفسون طيبة رغم الدخان والغبار المتصاعد من آلات الهمجية المحيطة. لم يكن الطفل يرتدي ثيابا رثة ولا ممزقة، ولو كان في بلادنا لحسده الباعة الجائلون وموظفو الحكومة على ما به من نعمة، لكنه لم يكن يرتدي من الثياب ما يكفي ليقيه موجة الصقيع العاصفة.
حين شاهدت ما التقطته عين الكاميرا النرويجية المتربصة، وتذكرت صورة لم تمل مواقع التواصل العربية من عرضها أمام الأحداق الباردة لطفل سوري يرتجف بردا تحت سقف العروبة المتآكل، تذكرت قصيدة نزار "متى يعلنون وفاة العرب؟" ولأن الشيء بالشيء ينكر، تذكرت كيف تخلى الطفل عن أكمامه البالية ودس ذراعيه في جنبيه يلتمس بعض الدفء من أضلاعه النخرة، دون أن يلتفت إليه أحد أو يخلع معطفه أحد، ومنذ ذلك الحين أحاول كنزار
أحاول أن أتبرّأَ من مُفْرداتي
ومن لعْنةِ المبتدا والخبرْ...
وأنفُضَ عني غُباري.
وأغسِلَ وجهي بماء المطرْ...
أحاول من سلطة الرمْلِ أن أستقيلْ...
وداعا قريشٌ...
وداعا كليبٌ...
وداعا مُضَرْ...
أحاول أن أمنح أطفالي جنسية الإنسان الأخير فوق أي رقعة دنماركية آدمية، وأن أهرب من عاطفتي التي ربطتني كفصيل غر بحبل العروبة وأكذوبة الجامعة. أحاول أن أفرق بين البلاد وبين السفن، وبين التاريخ وحكايات الجدات قبل النوم وبعده. أحاول أن أجد بيت شعر عربي واحد لا يمجد رأس الهرم ويمسح بحروفه الممجوجة السمجة بلاط الملك ويقبل رأس الحاشية. أحاول أن أجد قناة واحدة تذيع أخبارا لا تمر على مقص رقيب، وتتلقى أنات المواطنين دون استجواب مطول وأسئلة استخباراتية سمجة. وأحاول أن أجد رأسا واحدا من رؤوس العروبة القديمة ترفع رأس العرب.
أراقبُ حال العربْ.
وهم يرعدونَ، ولايمُطرونْ...
وهم يدخلون الحروب، ولايخرجونْ...
وهم يعلِكونَ جلود البلاغةِ عَلْكا
ولا يهضمونْ...
واليوم، وبعد أعوام من البحث الدؤوب في شرايين الخريطة، أعلن بكل أسى وحزن ومرارة، وبعد أن كشفت كاميرا الدنمارك الخفية ما عشنا عصورنا نخبئه تحت معاطفنا العروبية البليدة من قسوة جاهلية، وفظاظة بدوية، وبلادة شعورية .. أعلن أمام كاميرات لا تستحي من عري طفل أو سحل فتاة أننا فقدنا مؤهلات الخلافة ودماثة الخلفاء، وأعلن من مقعدي البارد وسط صقيع عالم لم يعد يأبه لأنات صغيرة باردة تنتظر منذ أعوام فوق حطام المواطنة نبضة عروبية حقة ومعطف فارس أخير دون جدوى .. أعلن وفاة العرب.
عبد الرازق أحمد الشاعر
Shaer129@me.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق