سجل إعجابك بصفحتنا على الفيس بوك لتصلك جميع مقالاتنا

بحث فى الموضوعات

الجمعة، 6 ديسمبر 2013

دراسات: نثر - شعر: جان دمو : اسمال الملوك و قصائد اخرى بقلم/ عدنان أبو أندلس

 شراسة النص العبثي ونهاياته العدميّة 

ليس من السهولة الكتابة عن شاعر تمرد على الحياة و ملأ المسافات تسكعا" و صعلكة بهذه الاسطر القليلة , لكن ما الجدوى في ذلك و الرغبة تلح في ولوج معترك هذا الكائن العدمي الغامض الغاطس ابدا في حلمه الكحولي ,والممتد منذ صباه و حتى نهاية عمره , هذا الطفل الكهل الذي افزعني تشرده , التائه في نهار الدنيا و القياف في عتمه ليل الحانات , له دراية بخرائط الارصفة و فهارس الليالي العبثية البرئية انه أمير الصعاليك وحامل بيرق مريديه الى حرائق الشعر 
( جان دمو ) . ذلك المتمرد الاثيري بامتياز , انه صعلوك مع سبق الاصرار . صعب المراس ,فوضوي,بوهيمي, مشاغب , مشاكس , عنيد , منفلت , سليط اللسان ,عبثي, جريئ الى حد يتفاداه المتسلطون , لم يخضع لنظام ولاتقيده ضوابط ,هذه صفات لم تكن يوما ما مثلبة عليه وإنما مدحا , وهو الأبيض النقي يحسد عليها لأنها من صلب انسانيته الصافية... لكنه وديع جدا" في لحظة الأنتشاء ... هكذا يتحدث عنه معاصروه.
وقد وصفه قرينه وأحد أقطاب المربع الذهبي للصعلكة انذاك -الشاعر –حسن النواب-بالمتشرد الإستثنائي وأيقونة في الشعر العراقي المعاصر, "إلا إن إسمه ظل متداولا كأصدى الإلتماعات الفريدة سواء في كتاباته المقلة أو في إنطباعاته الشفوية المثيرة والمدهشة حول الكتابة,او في سلوكه الحياتي كصعلوك (إستثنائي) وساخر كبير لصاحب ديوان صغير"أسمال."1"
فهو حتى بثمالته ومزاجيته الرائقة تراه حينا اودع من حمّل , و أهدأ من حمامة . 
كان اكثرهم ... توقا الى الحرية ,وأكثرهم تهكما وبعيدا عن الواقع ومصابا بكره الماضي الذي يربطه به لذا تراه إبتعد عن أهله ووطنه دون ادنى خفقة قلب,
كان حسن الدعابة لديه باذخة وإستعداده للتهجم حتى على نفسه ,يبصق على كل شيء ولمرات يعكسها الريح فترتد عليه,
لذا كان اكثرهم اصرارا" على التمرد ... ضمن جماعة كركوك الأثيرية-فاضل-سركون-الأب يوسف-صلاح-جليل-مؤيد-الغساني-.
و كما ورد عن زميله و معاصره الاديب (فاروق مصطفى )." هو الملئ بتفجراته و نفوره الداخلي الحاد حتى مع نفسه ساعة الغضب تعتريه نوبات لو تحققت لنسفت كل التنظيرات المطروحة اَنذاك ... وحتى سكون هذا الكون "2"
لكن خنقته الغربة و اصبح عصيا" على الوطن , عاش حياته كلها بعيدا عن اية قيود و كما يشتهي حتى اضحت قصائده في اللامعقول و اللاوعي و العبث و اللامبالاة طاغية في نصوصه الشعرية وعناوينها تمثل بمسمياتها حالة من الضياع والغرق في دهاليز الرعب ومتاهات هذا العالم, وكأن في عنونتها قصدية لإستغاثة من شبح يحيط به .
لذا تراه يستغيث للخلاص من شدّة الضيق الذي بات يخنقه فجاءت مسميات قصائده – السقوط- الظل- الصوت يبحث عن الصوت –آه ,لِمَ القوارب هذه-هذه مسالك غير سالكة,إضافة الى عنونة قصائده الأُخرى بغرائبية فجة –الجلد الذي سافر بالقطار ونسي أن يقول للبروفسور –نعم ,هذا هو العنوان ,اما متن القصيدة فهو كلمة –ثلاث ...فقط , هل ياترى توجد اكثر من هذه الغرائبية في الشعر المعاصر ؟ 
وقصيدة ثاني أوكسيد البيجاما –صدى الضفادع -هذه غرائبيته و مفارقاته في الاسلوب يعرف بها عبر ارسالياته المتخمة بالنوادر و الأفتراضات و التكهنات و عوالم غير مأهولة البتة بنصوصها الكهنوتية وطلاسمها اللفظية إضافة الى الهالات من الغموض والشطحات الغنوصية الهذيانية الغير مطروقة أو مألوفة في نسيج هذا الشرق منها مقطعا" من مجموعته أسمال يقول : 
حبيبتي 
فمك حمار كهربائي 
حيث اسناني تسافر 
في الريح 
هذا المقطع و كما يقول الباحث د. يوخنا ميرزا الخامس .... انه نص يتسربل بالغموض و عصي على الادراك , ( فلا نلمس 
منه وعيا" شعريا" سوى انه يحمل غرابة مبهمة لا طائل من تحتها .)"3"
كذلك للناقد د.سنان النفطجي رأي مشابه بذلك يقول :(لايجد القارىءشعرية في هذا النص,ولكن بقليل من التأمل يتوصل الى أن هذا الشاعر قدّ عبر عن موقف في القرف عن ثرثرة إمرأةلاتمل من الكلام المستمر,وعن نفاذ صبر الشاعر من خلال صوت طقطقة اسنانها التي تسافر في الريح)

شراسة المفردات أدت الى هذه الخشونة في تصلب المشاعر وتقعرها , وهل يمكننا التعامل مع هذا المقطع ببقايا عقل نجا من سطوة العنف المخيالي بصوره الحادة المزاج ومدببة النهايات ولا يخلو من القسوة والألم _على حدّ رأي د.خزعل الماجدي في وصف _الشعر الشرس.
لذا أقول : 
حمار كهربائي ... اسناني تسافر في الريح 
ما الربط بين مفرداتها /حمار / كهربائي / اسناني / تسافر في الريح /تساوي فقط فمك ... انه نص هلامي –أميبي –إخطبوطي -فوضوي لا يخضع لعادات الفكر المنطقي ... فان الكلمة لا تساوي المعنى اسما" و رسما" في الجملة ... اذ" انها تتشكل بوجود مستقل أكثر فأكثر و لم تعد مدرجة في نظام سياق الجملة في المفهوم العام كي يمر عبرها المعنى ... انها حالة هذيان أو هذر , أو حالة اغماء أو 
تعاطي ما يصبو اليه كل حين في عرق الفكرة بهذا الشكل السيال أو السائب الذي لا تتقبله الذائقة في هذا النهج العقلاني السائد في هذا الزمن, انما كان ثورة في الزمن الجميل – عصر التمدن ستينيات العصر المنصرم ... 

ومن مجموعة أسمال في قصيدة بلا عنوان كتبت في حانة دلير في 7-5- 1992يتضح للمتلقي المكان الذي دونت به القصيدة ونكهة الكحول العابقة في ثناياها من مفرداتها المشاكسة والعسيرة على الإدراك سطرت جليا في لحظات ثمالة واضحة يقول فيها : 
مع كل الغيوم التي تشكل زبدا" 
تحت فم الكركدن 
يتعين وضع بعض الاسلاك 
حول وقت الأطباء 
و البغاة و السفاحين 

ماذا يفهم المتلقي من استعمال هذه الكلمات النافرة و الغريبة و المثقلة بالغموض والإبهام لا رابط بين تناغماتها و شفرات النص ,لأدخاله ربما الفلسفة كعنصر مطعم بايهامها و ايهام المتلقي بحبكتها التشكيلية ... انها قصيدة الهوة والمتاهة المعتمة
في ليل اعصار لا يهدأ و زمجرة تنعق من مكان لا يرى ,الإحس دعابة عبثية فائقة يرن في أحاسيسه لحظة النشوة,
كان إسمه يسبق شعره دوما , ومعظم الذين عرفوه ظلوا يجهلون شعره حتى غدا شاعرا بلا نص,وكما قال فيه مرة الناقد عبد القادر الجنابي " شاعرا يجيد الشعر ,ولا يحتاج ان يكتبه". 

و في قصيدة بغداد ص (24) من المجموعة حيث يظن المتلقي حالما" يقرأ العنوان بأنه يصف او يمجد العاصمة بغداد غير 
انه لم يذكرها حتى ولو بالتنويه لكن عنوان القصيدة فقط .... يقول :
الشيخ يشرح الفواكه 
وحدي ,تحت ,المطر 
اليوم يموت بتؤدة 
أأترك صيفي 
ينبت على شفاه الماموت ؟ 

إنها اختلاجات نفسية و حقائق افتراضية و تراكيب فلسفية قال عنها الناقد هشام القيسي ( نسجت من اللاوعي و تحت 
تأثير ألانتعاش الدائم ابعدته عن الواقع نحو المجاهيل و الى هوة من فراغ ) "4"
هذه المفردات الغرائبية كصخرة يدحرجها من قمة جبل شاهق تظل ترتظم نهاياتها في الحافات الى ان تستقر مخلفة وراءها
تقعرات و تصدعات تنهار رويدا رويدا .... فجاءت هذه المفردات مرتدية أسمال الإستحالة بلا نهايات مختومة مثل ..... 
اللامحدود – اللامنظور – ما لا نهاية – اللاجدوى – اللاوصول – اللاحرب – اللا احد –اللامنتهي... تلائم المديات البعيدة و من الصعب اللحاق بها وهذه التي عطلت حياته لصراحتها الأكيدة.

و هذا النص في المجموعة اليتيمة - أسمال.... 
كلا اللوعة 
كلا الوصول 
الوصول الى اين 
غريب ان توقظ الاشياء 
بأسمال الرعب 
اسمال الجغرافية 
فلتكن اسمال الملوك . 

انه انحلال حقيقي للجملة حدثت بها تناغمات متنافرة و مفككة حينا بابعاده كل المفاهيم و المعطيات الملموسة التي يفهمها 
الفكر حينا" اخر ... تحررت من العقلنة التي تقيده بضوابط صارمة.
هذا هو -جان دمو-الذي اتحف الادب العراقي عامة و كركوك خاصة بمسميات و تعابير و رؤى حلمية , أو قل ايهامات و تجليات اشراقية تحتاج الى ذهن متحفز دوما" بشئ من 
التامل و الاجتهاد كي تقتحم مجاهيله و حل الغازه لغته و اختراعاتها المتواصلة و تفوهاته الأعتراضية في حالة مزاجلته يدخل في ابداع شاعر لن يتكرر بهذه الفرادة المعكوسة غرائبية في السيرة و مفارقات في الشعر وفق تجربة امتدت قرابة اربعين عاما" قضاها بين الحانات و المقاهي و الارصفة التعبى التي لا تقضي الى شيئ سوى- اسمال الملوك -التي ورثها عن صعلكة كثر حسادها و غبطها المخلصون في الشعر ليس إلا ..... 

......................................................................................................................................................

الإحالات:- 

1. أسمال / جان دمو / منشورات دار الامد- بغداد -1993 . 
2. الإستذكارات الناقصة / فاروق مصطفى / كركوك 2005 . 
3. كركوك فضاءا" نثريا" / د. يوخنا ميزرا خامس / الأديب بغداد 2008 . 
4. شعراء جماعة كركوك / هشام القيسي / كركوك 2009 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق