سجل إعجابك بصفحتنا على الفيس بوك لتصلك جميع مقالاتنا

بحث فى الموضوعات

الثلاثاء، 6 أغسطس 2013

مقالات دينية: الشهادتان وعي وجوديّ وقرار ثوريّ بقلم الشيخ/ محمد الزعبى

 أركان الإسلام بين الكهانة والديانة- الحلقة الثانية

شهادة الكهانة :

الشهادتان في المفهوم الكهنوتيّ تعني أن تقرَّ وتعترف "موقناً"(!) أنّه لا إله إلا الله، وأن محمّداً رسول الله، دون أن يترتّب على هذه الشهادة أيةُ مسؤوليّة اجتماعيّة وإنسانيّة. وحتّى تطمئنَّ أنّك تؤدِّي حقَّ الشهادتين حاولْ أن تكرِّرها عدّة مرّات في اليوم، وكلّما شعرت بخطر يُحْدِقُ بك سارِعْ إلى النطق بالشهادتين ليكون آخر كلامك «لا إله إلا الله محمّد رسول الله» وهنيئاً لمن استطاع النطق بِها قبل موته حتّى لو كان في حياته عميلاً لأعداء الأمة؛ ويا تعس من عجز عن النطق بِها قبل موته فإنّها علامة سوء الخاتمة مهما قدّم وبذل في سبيل سموِّ الإنسان، حتى لو بذل دماءه انتصاراً للحقّ ودفاعاً عن المظلومين والمستضعفين.
شهادة الكهانة تمنحك أماناً يقينيّاً بنجاتك الفردية، وتُؤَكِّد إمكانيّة النجاة الفردية: أي بإمكان الفرد أن يُخَلِّصَ نفسه في الآخرة بمجرَّد أن ينطق ويقرَّ بالشهادتين، وليس عليه بعد ذلك أن يُضَلَّلَ الإنسان أو أن يُقْهَرَ أو أن يُذَلَّ، وأمّا جهاد الأنبياء والأولياء وتضحياتُهم فهي على سبيل الندب لا الوجوب، وهي تعبِّر عن سموٍّ لا يستطيع كلُّ الناس أن يصلوا إليه، فالفرد العاديُّ لا يُطالَب بِهذه السبيل، إنما يكفيه نطقُ الشهادتين والإقرارُ بِهما, وأن لا ينكر معلوماً من الدين بالضرورة!!!

شهادة الديانة :

وقبل أن نبدأ الحديث عن المفهوم القرآني للشهادتين نسأل كلَّ الذين عَلَّموا أركان الإسلام تعليماً يمسخ صورة الإسلام: ترى هل يكفي الإقرار بالشهادتين ليضمن المرء نجاته؟ وهل ما يريده الله سبحانه من الإنسان هو مجرّد إقرار وتوقيع؟! فما معنى قوله تعالى إذاً: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ)[العنكبوت2] لو كان الإيمان قولاً وتصديقاً فما قيمة التجربة؟ إنّ الإيمان الذي لا ينعكس حركة في الواقع لا قيمة له عند الله، وطريق الجنّة واحد لا يتعدَّد مهما حاولَتْ بعضُ كتب العقائد والمتون وحواشيها أن تقول غير ذلك (أو مهما حاول كهنة الدين أن يُقَوِّلوها غير ذلك): إنَّها طريق الأنبياء الذين رفعوا شعار تحرير الإنسان من عبوديّة الطغيان والهوى والاستكبار، وأخذوا على عاتقهم كفاحَ الظلمِ والجهلِ وتزييفِ الوَعْيِ لأجل استغلال الأقوياء للضعفاء، إنَّها طريق التضحية بالذات لإنقاذ الغير إرضاءً لله سبحانه، إنّها طريق البأساء والضرَّاء التي أكّدها القرآن طريقاً وحيداً خالداً لدخول الجنّة: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)[البقرة214] وقال تعالى: (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)[آل عمران] إذاً فنصوص القرآن واضحة صريحة تخاطب كل الواهمين ألا تحلموا بالجنّة إلا من خلال سبيل الذين سبقوكم من الأنبياء والأولياء الذين تحمَّلوا كلّ الأذى والاضطهاد من طغاة التاريخ، حين رفعوا الصوت عالياً لإنقاذ الإنسان من الخضوع أو العبودية لغير الله، فعاشوا الصراع مع الطاغوت والكفاح ضدّ الملأ الذين سَخَّروا سلطتهم السياسيّة والدينيّة لاستغلال المستضعفين وتزييف وعيهم ومسخ إنسانيتهم، عاشوا هذا الصراع بآماله وآلامه وأحلامه ومخاوفه ويأسه وقلقه (متى نصر الله).. أمّا الذين لم يعيشوا صراعاً ضدّ الطاغوت ولم يعانوا التأرجح بين أحلام النصر وكوابيس اليأس فهؤلاء يخاطبهم القرآن بأن أملهم بالجنّة وَهْمٌ في وَهْمٍ (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ...)، إنّ مجال العقيدة ليس محصوراً في الضمير، بل لا بدّ أن ينعكس في الواقع، فمن شهد الشهادتين بحقِّها وَجَدْتَهُ يبذل نفسه من أجلها، وهذا علامة صحة شهادته، وأما الذين قالوها بلسانِهم، وعاشوا الشكَّ والريب في حقيقتهم فهؤلاء سيتهرّبون من مسؤوليّة الشهادتين ومقتضياتِها (لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ)[التوبة].

شهادة للحياة لا للموت:

ثمّ هل صحيح أن النطق بالشهادتين قبل الموت يمحو كلَّ جرائمِ الإنسان في حياته؟ وهل صحيح أن العجز عن النطق بِهما قبل الموت يُضَيِّع كلَّ جهاد الإنسان في حياته وهو علامة سوء الخاتمة؟ أبداً لا يمكن أن يُخْتَصَر الإسلامُ بِهذا الفهم الساذج، ولا يمكن أن نُبَسِّطَ كلَّ تضحيات ومعاناة الأنبياء باختصارها بجعل الإنسان يَخْتِمُ حياته بكلمةٍ!! إنَّ الشهادتين هما إعلان لبدء الحياة لا لنهايتها، إنَّهما قرارٌ واعٍ باختيارِ نموذجٍ سامٍ من العيش، إنَّهما ساعة الصفر لانفجار ثورة جارفة واعية ضد الطاغوت المُسْتَعْبِدِ للإنسان..
لذلك واجه الطغيانُ هذه الشهادةَ، وأُقسم لو كانت مجرّد طقوس للموت لما كانت تلك المواجهات العنيفة عبر التاريخ.
وأمّا حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة» [صحيح البخاري ومسند أحمد] فإنّه فُهِم على غير وجهه، فالنصّ هنا مطلق كما في علم أصول الفقه، فإذا ورد نصٌّ مقيّد فيجب حمل المطلق على المقيّد، وقد ورد اللفظ مقيّداً بالإخلاص في روايات أخرى، وطبعاً لا يكون مخلصاً بـ "لا إله إلا الله" من كان يخاف أولياء الشيطان، ويخشى الناس أكثر ممّا يخشى الله، ويرضى أن يَتَأَلَّهَ على الناس طاغوتٌ من الطواغيت، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «يا أيّها الناس إنّه من لقي الله عزّ وجلّ يشهد أن لا إله إلا الله مخلصاً لم يخلطْ معها غيرها دخل الجنّة. فقام عليّ بن أبي طالب عليه السلام فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأبي أنت وأمّي وكيف يقولها مخلصاً لا يخلط معها غيرها؟ فَسِّرْ لنا هذا حتى نعرفه. فقال: نعم، حرصاً على الدنيا وجمعاً لها من غير حِلِّها، ورضى بِها، وأقوام يقولون أقاويل الأخيار ويعملون أعمال الجبابرة، فمن لقي الله عزّ وجلّ وليس فيه شيء من هذه الخصال، وهو يقول: لا إله إلا الله فله الجنة، فإن أخذ الدنيا وترك الآخرة فله النار. ومن تولّى خصومةَ ظالم أو أعانه عليها نزل به ملك الموت بالبشرى بلعنة الله ونار جهنّم خالداً فيها وبئس المصير. ومن خَفَّ لسلطان جائر في حاجة كان قرينَهُ في النار، ومن دَلَّ سلطاناً على الجَوْر قُرِنَ مع هامانَ، وكان هو والسلطان من أشدِّ أهل النار عذاباً، ومن عَظَّمَ صاحب دنيا وأحبَّه لطمع دنياه سخط الله عليه وكان في درجته مع قارون في التابوت الأسفل من النار. ومن بنى بنياناً رياءً وسمعةً حمله يوم القيامة إلى سبع أرضين ثم يُطَوَّقه ناراً توقد في عنقه، ثم يرمى به في النار. فقلنا: يا رسول الله صلى الله عليه وآله كيف يبني رياء وسمعة؟ قال: يبني فضلاً على ما يكفيه أو يبني مباهاة، ومن ظلم أجيراً أجره أحبط الله عمله وحرّم عليه ريح الجنة، وريحها يوجد من مسيرة خمسمائة عام» [أورده الحافظ البوصيري الشافعي في إتحاف المهرة بزوائد المسانيد العشرة والهيثمي في الزوائد]، وفي رواية أخرى: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من قال: "لا إله إلا الله" مخلصاً دخل الجنّة وإخلاصُهُ بِها أن يحجزه "لا إله إلا الله" عما حرّم الله عزّ وجلّ» [رواه الطبراني في المعجمين الأوسط والكبير وابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم]، وفي سنن النَّسَائِيِّ: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ما قال عبد "لا إله إلا الله" مخلصاً إلا فُتحت له أبواب السماء حتّى تُفْضِيَ إلى العرش ما اجْتُنِبَتِ الكبائرُ» إذاً هكذا تُبَيِّنُ لنا سنّةُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كيف يمكن لـ «لا إله إلا الله» أن تكون سبيل نجاة: إنَّها تشترط عدمَ الولاءِ للطغاة والظَلَمة واجتنابَ المحارمِ والكبائر؛ وكثير من الناس لا يعلمون أنَّ من أكبر الكبائر تَرْكَ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالتالي فقدان الشعور بالمسؤوليّة، والرضا بالظلم والجهل، ولا يعرفون أنَّ من أعظم الآثام أن تأتيَ إلى الحياة وتمضي دون أن يكون لك أثر وموقف في قضيّة تحرير الإنسان..
من هنا وجب علينا أن نعيد النظر في فهمنا لحديث: «الأعمال بخواتيمها» [البخاري] الأعمال بخواتيمها لا يعني أن الحساب يُخْتصَرُ يوم القيامة بآخر لحظات العمر، ولا ينسخ قوله تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)[الزلزلة] بل مفهوم الحديث أنّ حقيقة الأعمال قد تنكشف وتظهر عند الخاتمة، فربما مثلاً تجد أباً يتفانى في سبيل أولاده، ويُؤْثِرُ هَناءَهم على هنائه، ولكنّه عندما يشعر أنّه على وشك الموت يبدأ يتحسّر على أنّه يرحل وحيداً فيما أولاده يتنعّمون بجنى عمره، هنا تنكشف دوافعه في خاتمته، ويظهر أن كل سعيه لأولاده في السابق كان أنانياً ذاتياً يتلبَّس بلباس الإيثار والغَيْرِيَّةِ، إنه كان يُضَحِّي حُبّاً لذاته أكثرَ منه حبّاً لأولاده، كان يريد أن يتفاخر بحديث الناس عمّا حقَّق لأولاده، وهذه الدوافع الحقيقيَّةُ كَشَفَتْها الخاتمةُ.. وقد تجد إنساناً حريصاً أشدَّ الحرص على الالتزام بالإسلام ولكن ربما حين تأتي لحظةُ الموت، لحظةُ الصدق مع الذات، تبدأ الشكوك والمخاوف تراوده، فالخاتمة هي لحظة الصدق التي تكشف حقيقة الأعمال، وتُعَرِّيها من زيف النفاق الاجتماعيّ، فمن أراد أن يعرف خاتمته فلينظر إلى حاضره: أين أنت الآن؟ ستنتهي حيث أنت الآن، فإذا كنت لامبالياً ستنتهي لامبالياً، وإذا كنت هارباً من شكِّك ستنتهي مواجهاً لِشَكِّك، وإذا كانت ذاتُك تحاصرك بالأنانية والفرديّة والنفعيّة فستنتهي وهي تحاصرك، وإذا كانت الدنيا أكبر هَمِّك فستموت مهموماً بِها... ولذلك من أراد لنفسه خاتمة سعيدة مطمئنّة فلينتفضْ من الآن ضدّ واقعه، وليكسرْ طوق الذات ليسموَ في مراقي الفلاح، فمن كانت بدايته كما كانت بداية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مضى عهد النوم يا خديجة» ستكون خاتمته كما كانت خاتمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا كرب على أبيك بعد اليوم يا فاطمة» [صحيح مسلم] وكما يقول العارفون: «من كانت بدايتُهُ مُحْرِقةً كانت نِهايتُهُ مشرقةً».
فالنطق بالشهادتين إذاً قبل الموت أمر عاديٌّ يصدر عن أيّ مسلم يحاول إنقاذ نفسه في اللحظة والفرصة الأخيرة، والإنسان يبقى عاقلاً مدركاً لمصالحه حتّى الرمق الأخير من حياته، ولكن لو أنّ عميلاً متآمراً على الدين والأُمَّة، قضى معظم عمره في خدمة أعداء أمّته، ثمّ حاول وهو على فراش الموت أن يَمْسَحَ تاريخَه وخياناتِهِ بالنطق بالشهادتين: هل ينجح في ذلك؟ طبعاً لن نتألَّى على الله الذي يغفر لمن يشاء ويُعَذِّبُ من يشاء، ولكن الأصل أنَّ الإنسان يحاسَبُ عن كلّ أعماله حتّى مثقال الذرة، والأصل أنَّ الشهادتين لا تنفع إن كانت مجرّدَ كلام ولم تكن مشروعاً للإنسان والحياة..
من ناحية أخرى فإنَّ عدم القدرة على النطق بالشهادتين يتعلّق بحالة الموت وظروفها التي قد تمنع الإنسان أن ينطِقَ أيَّ كلمة، وكذلك شكل الوجه وأساريره لا تدلُّ على صلاح الإنسان أو فساده، فسكرات الموت مؤلِمَة، وقد يَقْبِضُ الإنسانُ عضلاتِ وجهه من شدّة الألم فيموت على هذه الحالة، فلا يكون عُبوسُ وجهه دلالةً على سوء منقلبه، وقد تتراخى عضلات وجهه قبل الموت فيموت على هذه الحالة فيظنّه الناس مبتسماً لما بُشِّر به... والحقيقة أنَّ حُسْنَ المنقلب أو سوءه إنّما يُعرفان من حياة الإنسان لا من موته، وفي كلّ حال هي معرفة ظنّيّة.

في الحلقة القادمة: الشهادتان.. ثقافة ورسالة وقيادة!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق