سجل إعجابك بصفحتنا على الفيس بوك لتصلك جميع مقالاتنا

بحث فى الموضوعات

السبت، 24 أغسطس 2013

القصة القصيرة: تفاصيل أخرى مملة!! بقلم/ مروان محمد

من حكايات عاطف العشرة 

(1)

كان يحاول أن يرتب الكلمات فى عقله و هو يسير فى أحدى أروقة مستشفى جمال عبد الناصر, كيف يخبرها عن حقيقة شعوره الجديد هذا و لا يعرف إذا كان سعيدابهذا الشعور أم لا؟!

ألقى السيجارة من نافذة الرواق المفتوحة و اتجه يسارا إلى ممر آخر قصير و تمهل قليلا قبل أن يدخل إلى عنبر المرضى الذى يضم أربعة أسرة, اتجه إلى الأخير حيث كانت تدير رأسها لشباك صغير يطل على أحدى أفنية المستشفى الخلفية.

- السلام عليكم.

أدارت له رأسها و قد انتابها شىء من السعادة لدى رؤيته حتى أن صوتها و هى ترد السلام قد تدفق إليه أنوثة عذبة أفتقدها طويلا, جلس على طرف الفراش و ضحك قائلا:

- لن تصدقى ما سأقوله لك.

نظرت إليه بتساؤل فقال و هو يضحك ثانية:

- لقد اشتريت رواية لديستوفيسكى أسمها الجريمة و العقاب و بدأت أقرأ فيها و انتهيت من نحو 50 صفحة حتى الأن.

تبسمت حتى بدت جميلة حقا رغم إرهاق وجهها الواضح و قالت فى صوت أعياه المرض:

- و هل أعجبتك؟

- أنا أقراها لأنك تحبين كاتب هذه الرواية و حسب.

أثرت الصمت و لم تعقب, صمتت لأنها لم تجد ما تقوله, كذلك هو عاوده الشعور بالحزن مرة أخرى خصوصا و قد قرأ فى عينيها هذا التخاذل أو ربما البرود و كان آخر ما تبادلاه من حديث حين قال:

- قررت أن أعمل فى وظيفة أخرى بعد الظهر.

(2)

نفض رماد سيجارته فى الطقطوقة و ظل يتابعها و هى تتحرك بسرعة و خفة بين الموائد تجيب طلبات الزبائن, اقتربت من طاولته مبتسمة و قالت:

- هل ستحملق فى هكذا إلى الأبد؟

- لازالت رشيقة يا هناء رغم كل هذه السنوات.

نظرت إلى نفسها و علا وجهها سعادة حقيقية حاولت أن تواريها بقناع زائف من الحياء و هى ترد:

- حقا يا عاطف.

- خسارة أنك تركتى الكلية.

توقع أن تعلو الحسرة وجهها و لكنها بدلا من ذلك ضحكت بصوت عالى و علقت:

- مرآه الحب عمياء يا عاطف.

شرب آخر ما تبقى من كوب الشاى و قال:

- هل تحصلين على أجر معقول؟

- لم يعد هناك ما هو معقول هذه الأيام يا عاطف.

لفت نظره توقف الأتوبيس 771 فى محطته بجوار رصيف الكورنيش فمد يده يصافحها و هو ينهض قائلا:

- لا تندمى أبدا يا هناء على ما فعلتى.

لم تعلق فى حين أسرع يعبر شارع الكورنيش فى خطوات أقرب للركض, و قد لفت نظره انعكاس أسم الكافتيريا على أحدى نوافذ الأتوبيس " ليالى الحلمية" فاستعادت ذاكرته بسرعة خماسية مسلسل ليالى الحلمية.

(3)

عندما وضع كوب القهوة على المائدة و ركز فيها لثوان خمن عاطف أن عمه مقدم على قول شىء مهم:

- أريد أن أطلعك على أمرا ما يا عاطف.

- تفضل.

كالعادة لم يكن عاطف مهتما بأى حديث و لكنه يتصنع دائما الأنصات حتى لا يحرج محدثه فأكمل عمه:

- يراودنى شعور بأن أيامى الأخيرة قد اقتربت.

هل كان المفروض على عاطف أن يواسيه ببضع كلمات على غرار" لا تقل ذلك, لازال فى العمر بقية, أنما الأعمار بيدى الله", لا يعرف, و لكنه أثر الصمت معتقدا فى قرارة نفسه أن تلك الكلمات لا تواسى بقدر ما تجلب سخط الشاكى.

- هذا الشعور لا يراودنى لأننى أصبحت شيخا أو لأنى مريض بالقلب و لكنه شعور غريب ورثته عن أبى و جدى, مثلا جدى راوده نفس الشعور قبل أن يموت بثلاثة أيام, ثم راود عمى نفس الشعور و مات بعد ساعة!

قالها و ضحك و لكن عاطف لم يضحك لأن ما يسمعه كان غريبا بالنسبة له و استطاع أن يجذب انتباهه على الأقل فسأل عمه:

- و أبى قبل أن يموت هل راوده نفس الشعور؟

- أبوك أبسط من أن يراوده شعورا كهذا, أبوك مات مثل أى إنسان بسيط!

مال رأسه قليلا على صدره و هو يقول:

- هل تصدق هذا الشعور؟

ضحك عاطف و هو يجيب:

- بالتأكيد أن كنت لا أصدقه الأن, فسأصدقه فيما بعد لأننى الوحيد المتبقى من هذه العائلة المنحوسة!

فى قرارة نفسه أعتبر أن هذا الشعور لن يراوده و ذلك لأنه بسيط جدا مثل والده, أقنع نفسه بهذا الأمر كى ينسى الموضوع.

(4)

- أستاذ عاطف.... كيف حالك؟

علامات الضيق التى شكلت ملامح عاطف لم تلفت نظر مجدى الذى أضاف بصوت عالى:

- هل تتذكرنى؟

- أنت زوج المدام!

استغرب الرجل أن تكون هذه هى العلامة التى يتذكره بها حتى أن السعادة التى ملأت وجهه غابت عنه و هو يقول فى غير حماس:

- زوج المدام!!.... هذا صحيح.

شعوره بأن هذه العلامة ليست التدليل المناسب على شخصه دفعه لأن يضيف:

- أنا مجدى جارك فى البيت القديم ... الحاجة.

- أهلا, كيف حالك؟

عاد حماسه الغير مبرر مرة أخرى إلى عينيه و نظر لعاطف نظرة سخيفة قبل أن يقول:

- لا تكذب العمل ككاشير فى فتح الله ماركت مربح للغاية.

- لا بأس به.

- هل يكلفك الوصول إلى عملك الجديد الكثير؟

مد عاطف يده إليه قائلا:

- مشترواتك يا أستاذ مجدى, هناك من ينتظر.

ضحك مجدى مناولا الأكياس إلى عاطف ليمررها على الجهاز و هو يقول:

- صباح أمس ذهبت إلى العامود لأزور أمى رحمة الله عليها و تذكرت أنه من الضرورى أن أمر على الحاجة الله يرحمها.

شعر عاطف ببرودة تعبث بعروقه فتجمد أصابعه, تذكر لأول مرة أنه لم يزورها منذ أن دفنت, الأن هو يعلم جيدا لماذا هو تعيس فى كافة أوقاته الليلية؟

(5)

أخذ يقلب فى صفحات الرواية و يقضم رغيف اللانشون و معها رشفة من كوب الشاى, حتى ألقى الرواية جانبا و نفخ نفخة ضيق, نظر يمينا إلى عم حسنى فوجده على ضوء اللمبة الفلورسنت الباهت ينام بعمق و شخيره المنتظم يبدد الصمت المطبق فى مخزن البريد.

قام ليتطلع من الشباك إلى ميدان محطة مصر فوجد إيقاع الحياة اليومى ذو الفوضى المعتادة يسير كما عهده, مشاهد كثيرة تتفاعل مع بعضها البعض داخل أطار الشباك دون أى مؤثرات صوتية.

ضحك و هو يراقب سائق التاكسى الذى يركن سيارته بجوار رصيف موقف الأتوبيسات الحكومية يتحرك بين المقود و موتور السيارة و لا يكاد يفعل شيئا سوى التنقل الغير مجدى بينهما.

فى الأخير خلع حذائه و ضرب به موتور السيارة عدة مرات و هو يسب و يلعن, تقدم منه أحد الشباب يستطلع الأمر فرفع له السائق يده اليمنى ليدلل على أنه بخير.

جلس السائق على حافة الرصيف بجوار سيارته يشعل سيجارته الأخيرة و يكور العلبة فى يده ثم يلقيها جانبا, أنعكس لهيب عود الكبريت على النافذة التى يتطلع منها عاطف و هو يشعل سيجارته الأخيرة هو الآخر و يلقى الثقاب مكورا العلبة فى يده, يفلتها لتسقط بين قدميه, ابتسم مرة أخرى مسترجعا موقف السائق فى الوقت الذى دقت فيه ساعة محطة مصر ثلاث دقات معلنة تمام الثالثة صباحا.

23-7-2003
الإسكندرية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق