سجل إعجابك بصفحتنا على الفيس بوك لتصلك جميع مقالاتنا

بحث فى الموضوعات

الخميس، 4 يوليو 2013

القصة القصيرة: بلا لون, بلا طعم, بلا رائحة بقلم/ مروان محمد


(1)

المطر غسل الطرقات كأحسن ما يكون فهذه نوة عوة, و قد أمتزج بريق الأسفلت بلون المصابيح الصفراء الكئيبة.

حاول أن ينكمش حول نفسه أكثر و أكثر فى معطفه الصوفى, لقد ضحك عليه أصحابه اليوم فى القهوة عندما شاهدوه فى هذا المعطف, لكنه يأبى أن يتخلى عنه نتيجة لشعور مبهم يرفض عقله المستهلك الأن أن يفصح عنه.

الليل فى هذا الوقت قد طلى السما بأسود غامق و الكثير من السحب الداكنة, جدران البيوت مشبعة برائحة مياه الأمطار عندما تسكن فى ثناياها قتبث رائحة طباشورية جميلة!

صورة عم درويش تتراى أمامه مشوشة و أنفاسه البيضا تفرض مساحة ضبابية على شاشة الرؤيا, توقف عنده فوجده قد أندس هو الاخر فى معطف مماثل بدا مضحكا فيه!, يحمى نفسه من المياة القذرة التى تصبها فوقه مذاريب البلكونات بسقف بلاستيكى يفرش أسفله كروانة ألمونيوم تمتلىء بقطع الجبن, إلى جوارها حزم الفجل المبللة.

- كيف حالك يا أستاذ عاطف؟

- طين, ألم تعقد النية على الموت يا رجل؟

- أرسل لعزرائيل فى البريد السريع و أنا رهن الإشارة.

- أعطينى نصف كيلو قريش.

امتدت يد عم درويش المرتعشة إلى قطعة الجبن و لكنها ارتدت سريعا إلى أنفه تكت عطسة قوية ثم مسح مخاطه فى كم المعطف و هو يكحكح, تناول قطعة الجبن و وضعها فى الميزان يكيلها.

ثم أسقطها فى كيس أبيض صغير, ناوله عاطف النقود و غادره فى خطوات سريعة ثم ألقى كيس الجبن فى أقرب صندوق قمامة صادفه على الطريق.

(2)

- عاطف قدم المقعد عادت إلى ما كانت عليه.

غادر حجرته مشعث الشعر فى بيجامته الكاستور, معقود الحاجبين فى غضب, نظرت إليه من أسفل جفنين ثقيلين و هى تقول:

- قم بإصلاحه.

- ألن ننتهى من أمره يوما؟

- أخبار عملك كنجار فى البحرين إلى أين سارت؟

- إلى خراب لا تقوم من بعده قائمة!

- يا ساتر يا رب, الله يلعن لسانك!

جثى على ركبتيه يقلب المقعد, يختبر القدم فى ضيق بالغ.

- السوس هجر المقعد من زمان لأنه لم يعد هناك خشب ليأكله!

لم يبدو عليها أى أنفعال مما قاله بل تسرب بينهما الصمت لثوان.

- هل أجهزت على الورقتين بمئة؟

- كيف عرفت بأمرهما؟

- عقلى لازال فى الخدمة يا كلب.

جلس إلى جوارها على الكنبة فقالت فى صوت حاولت أن تصبغه برقة, خرج على أثرها صوتها متحشرجا:

- أريد سيجارة يا عطوفة.

(3)

- ماذا يوجد فى هذا الطرد؟

- أشياء!

- مثل....

هرش الرجل بأصابعه اليمنى رأسه اللامعة و الحيرة تحتل قسمات وحهه و لم يجب, تأمل عاطف الصندوق للمرة الثانية فى تحفز, اصطاد فى عين الرجل توتر محبب إلى نفسه, فتلونت عينيه بنظرة بوليسية تشبع رغبته القديمة التى يأبى التخلى عنها, و كرر سؤاله مؤكدا على مخارج ألفاظه فى قوة:

- مثل....

مال الجرل نحو عاطف و هو يهمس:

- مجلات ثقافية!

ابتلع الرجل ريقه مردفا:

- لقد طلبها منى صديق يعمل فى السعودية ... السعودية ... هه... مؤكد فهمت!

استطرد:

- أصل صديقى هذا أفضاله على كثيرة و هذه فرصة لأرد إليه أحدى أفضاله!

- يا شيخ!

ساد الصمت لثوان جلس خلالها عاطف خلف مكتبه و سأله:

- كم ثمن المجلة الواحدة؟

- أقسم بالله ثلاثون جنيها للواحدة و نصف دستة أجهزت على جزء محترم من المرتب!

- ثلاثون جنيها للواحدة.

- نعم يا باشا!

اطربت مسامع عاطف لكلمة الباشا هذه كثيرا فقرر العفو عنه عندما قال:

- لا بأس و لكن مجلة فى الدرج لو سمحت!

(4)

لقد شعر بأن خديه ساخنتان و أن هذه السخونة تتسلل فى خبث هادىء إلى أذنيه, تأمل الصفحة الأخيرة من المجلة ثم أغلقها ملقيا إياها إلى جواره على الفراش مبتسما و هو يسحب النفس الأخير من سيجارته, غمغم محدثا نفسه:

- هؤلاء ليسوا بنسوة طبيعيات, أنهن شيئا آخر!

انقطع التيار الكهربائى على حين غرة ليسود الظلام المكان كله إلا أن أحلامه الجنسية ظلت مضيئة و متوهجة...

" ولد يا عاطف...."

- تعالى إلى, أنى أخاف الظلام.

- أرجوط يا جدتى تجلدى هذه المرة.

- تعال يا ابن الكلب!

تحرك فى خطوات آلية عبر هذا الفضاء المظلم يشق طريقه إلى جوارها, جلس ملتزما الصمت, ليترك لأفقه المساحة الكافية من أجل أن ينعش أحلامه الجنسية مرة أخرى و لم تمض دقيقة حتى اهتز جسده بالضحك.

- لماذا تضحك يا ولد؟

- هششش!

- أشركنى معك.

- ..........

تحول ضحكه المكتوم إلى ضحك مجلجل لم يستطع أن يوقفه.

(5)

أبعد الكنكة عن النار بعد أن فارت و تركها على البوتجاز المسطح متجها إلى باب الشقة يتطلع من الشرعية إلى السلالم ليتعرف على سبب الجلبة, كان هناك رجال يصعدون يحملون قطع أثاث و آخرون يهبطون فى سرعة.

- ماذا يحدث يا عربى؟

أدار العربى وجهه الطفولى إلى عاطف و ابتسامته الدائمة لا تفارق وجهه الأبيض, يقول فى صوت مرح:

- سكان جدد.

غادر عاطف الشقة يتأمل الوافدان, المرأة جعلت من نفسها مرشد لخطوات زوجها الممسك حقيبتين كبيرتين على السلالم الضيقة, سأل عاطف العربى:

- بدلا من من؟

- بدلا من أبو يوسف, لقد أنتقل إلى الرصافة.

أطلق عاطف صفير طويل, عيناها العسليتيان كانتا تركزان على عاطف فشعر بارتباك من لا يدرى هل يبتسم أو يشيح بوجهه و لكنه سرعان ما نفض هذا الشعور عندما شاهد فى عين العربى نفس النظرة الثابتة التى تحمل سعادة بلا حدود.

- السلام عليكم.

قالتها فى خفوت رقيق مغلف بدلال خاص, ردا السلام و طبطب عاطف على كتف العربى قائلا:

- النبى وصى على سابع جار... هه!

انتفض العربى فى دهشة و تحول وجهه الأبيض إلى طمطماية حمراء و أطلت من عينيه نظرة ذهول تحمل براءة طفولية مضحكة.

دخل عاطف إلى الشقة متجها إلى المطبخ يصب القهوة فى الفنجان و هو يحرص على أن يأخذ الوش مكانه فى استرخاء على سطح القهوة ثم اتجه إلى غرفته مغلقا بابها فى إحكام, مدد ساقيه على الفراش و أخذ يتأمل المجلة الثقافية مرة أخرى فى نشوة بالغة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق