سجل إعجابك بصفحتنا على الفيس بوك لتصلك جميع مقالاتنا

بحث فى الموضوعات

الجمعة، 26 أبريل 2013

قصة قصيرة: غية حمام بقلم/ وليد الزهرى

ـ أنا طالع فوق يا أمه 
وهي ترسي لحاله 
ـ لما يخلص الغدا أبعته لك يا ضنايا؟ 
أومئ لها برأسه وهو يضع قبعة دعائية وجدتها أمه داخل أحد مساحيق الغسيل لكي يستر رأسه بعدما انحسر شعره مثلما انحسرت عنه سنوات شبابه، أنتعل "شبشبه" ذو الأصبع الواحد وأدار ظهره خارجاً من باب الشقة صاعداَ للطابق التالي ثم أخرج مفتاح من جيب بيجامته "الكستور" ذات البياض المائل للاصفرار يغزوها طولياً خط أخضر عريض، فتح باب شقته بالدور الأخير واضعاً حجراً أمام الباب ليمنعه من أن يعود إلى مرفأه 
تجاوز كومة من الرمال و"شكارتين" أسمنت في "الصالة" الضيقة متجهاً إلى الحجرة المطلة على الشارع، جلس على بعض "كراتين" السيراميك، وأخذ وعاءً من حيث تركه بالأمس وطاف به على أوعية أكبر ليأخذ منها بنسب متفاوتة بعض من "ذرة صفراء وفول وذره عويجة وقليل من الحجر الجيري" خلطهم جميعاً بيده واستقام في وقفته وبيده وعائه وزجاجة زيت طعام قديمة ملأها بالماء ثم أزاح بقدمه الحجر عن الباب صاعداً إلى السطوح 
أدرك حمدي ـ الشهير بحمام نسبة إلى هوايته ـ بالأمس أنه لم يعد بينه وبين الأربعين إلا عامان في ليلة عيد ميلاده ولم يضيف هذا الحدث إلا مزيداً من الإحباط واليأس، نال قدراً يسيراً من التعليم أتمه بحصوله على دبلوم الثانوية الصناعية قسم نسيج، ولم يمنحه مؤهله عملاً بشكل دائم بعد بيع الكثير من مصانع القطاع العام المهتمة بتخصصه متجولاً بين العديد من الأعمال الهامشية والتي لم تمكنه من أن يقتصد منها المال الكافي ليتم "تشطيب" شقته التي جعلت بناية عائلته الأعلى بين بقية بيوت منطقته العشوائية 
قطع على مهل المسافة القطرية ما بين مدخل السطح والطبلية ـ قاعدة برج الحمام ـ ثم ارتقى سلمه لأعلى دون أن ينظر أسفله إلى أن أصبح داخل "غية الحمام" ترك ما في يده ليستريح قليلاً بعدما أرهقه الصعود، أسفاً على أيام كانت خطواته أكثر رشاقة من الآن 
تعمد "مسعد" ركن سيارته بجوار بيت "حمام" بالرغم من أن الشارع ضيق وبالكاد يسمح بمرور سيارتين متجاورتين، صعد درجات السلم في خفة إلى أن توقف أمام باب شقة مفتوح عن أخره، وأم حمام جالسة على الأرض ظهرها للباب بيدها اليمنى قليلاً من خلطة الأرز تضعها في كفها الأيسر الذي به ورقة كرنب مسلوقة ثم مالت برأسها قليلاً على كتفها وهي تبرمها منحنية للأمام ووضعتها برفق في "حلة" كبيرة أمتلئ نصفها، أدار ظهره وكأنه لم يرى شيئاً مصفقاً بيديه 
نظرت بطرف عينها للخلف لعدم قدرتها على أن تدير ظهرها كاملاً 
ـ مين؟ 
ألتفت إليها في حركة دائرية وكأنه أحد نجوم السينما معتزاً بذاته 
ـ مسعد يا حاجة 
باستغراب تبعه قدر من الذهول 
ـ مسعد !! أهلاً يا أبني مش معقول 
حاولت النهوض متكئة على الكنبة الاسطنبولي المجاورة لها، إلا أنها فشلت في محاولتها لوزنها الزائد، هرول إليها مساعداً، تعلقت برقبته وهي تحتضنه أثناء نهوضها 
ـ معلش يا أبني أصل بعيد عنك عندي خشونة في المفاصل غير شوية حاجات كده، المهم متخدش في بالك، جيت أمته من إيطاليا؟ 
ـ وصلت من يومين، وقولت أجي أسلم على حمام 
وهي تربت على فخذه بعدما استقرا على الكنبة 
ـ فيك الخير، تمرت فيك العشرة، مش زي أمك اللي من يوم ما عزلت من الحته وراحت بيتكم الجديد محدش شافها 
ـ ما تاخديش في بالك أنت عارفة هي كمان التعب بهدلها والله … "حمام" فين؟ 
ـ فوق من الصبح زي ما أنت عارف 
نهض من مقعده في عجل 
ـ هطلع له 
تبعته بنظرها وهي تميل على الكنبة باتجاه الباب حتى يسمعها وهو يركض على السلم 
ـ أعمل حسابك هتتغدى معانا محشي 
كان "حمام" يوزع وجبة الطعام الثانية على حمامه بعد العصر، مستغرباً دبيب خطوات صاعدة إليه فهي ليست لأحد إخوته، لم يشغل ذهنه كثيراً منتظراً من سيفتح باب الغية 
ـ أزيك يا "حمام"؟ 
ـ مش معقول "مسعد"، حمدلله على السلامة 
تعانقا بحرارة بعد سنوات طويلة منذ وداعهما الأخير عندما كان مسعد يخطو خطواته الأولى نحو عالمه الجديد، جلسا على الأرض سويا حيثما كانا سابقاً 
ـ يا سلام، كل حاجة زي ما هي، الغية، هديل الحمام، وأنت، نفس القعدة دي ياما قعدناها واحنا صغيرين مش ناقصنا غير "طاهر"، الا أخباره إيه صحيح؟ 
ـ بعد ما سافرت بسنة مبقاش يجي "طاهر" هنا ومعظم وقته كان بيقضيه في الجامع اللي في الميدان وبعد شوية ربى دقنه وفجأة اختفى … ناس تقول سافر … وناس تقول في المعتقل … مع إن "طاهر" لا بيهش ولا بينش، وأمه ماتت بحسرتها عليه وأبوه زهد في الدنيا بعد ما الناس بطلت تشرب "عرقسوس" وشربوا "الكولا" وقعد في بيته مستني الموت زي ناس كتير هنا عايشين علشان يستنوا الموت. 
ـ يا خسارة يا "طاهر"، مع أني دايماً كنت بختلف معاه وكنت الوسيط بينا إلا إني عمري ما نسيته ولا هنساه، وأنت يا "حمام" مش هتسيبك من تربية الحمام دي؟ 
نظر إليه بامتعاض مستغرباً صيغة استعلاءه 
ـ الحمام بيصرف على نفسه وعليا في بعض الأحيان، وقعدتي في الغية بتعوضني عن الدنيا اللي بره بشوف هنا التعاون بين كل "دكر" بيساعد وليفته وبيرقد معاها على البيض ولما البيض بيفقس بيأكلوا "زغاليلهم" سوا لحد ما عودهم يشد، مشوفتش فرد حمام بيرمي ولاده للشارع يربيهم، ولا "دكر" ياخد وليفته جوه العشه غصب عنها إلا بعد ما يغازلها ويداعبها، شوفت من الحمام كل وفاء وإخلاص وألفة وموده وده اللي مشوفتوش من البشر، عمرك شوفت قبل كدة "فرد حمام" طلق وليفته؟ ولا هي خلعته علشان فرد تاني عشته كبيره شوية ولا عنده شوية فول زيادة؟ الحمام ميعرفش معنى الخيانة يا مسعد 
ـ متجوزتش ليه يا "حمدي" لحد دلوقت أنت مش واخد بالك من سنك ولا أيه؟ 
ـ عرفت بنات كتير وقريت فاتحة كتير لكن مفيش نصيب ومفيش فلوس، هعمل ايه يعني؟ أخرهم "سهام" بن عم "قابيل" اللي بيتهم على أخر الشارع، وبعد الخطوبة ما طولت البنت زهقت وأبوها جوزها لواحد عربي قعد معاها شهر في شقة مفروشة وبعدها رجعت بيت أبوها لحد ما ياخدها على بلده، ومن يوميها لا هي سافرت ولا حد شاف وشه، وأنت من يوم ما سافرت معرفش حاجة عنك احكيلي أخبارك أيه؟ 
أعتدل "مسعد" في جلسته، وكان قد حط فرد حمام "هزاز" فوقه بقليل على سطح الغية، وعندما تراجع "الهزاز" برأسه للخلف نافخاً صدره، كان مسعد ينظر للسماء من خلف نظارته الشمسية الذهبية، ثم اخرج من جيب قميصه الحريري المزركش بألوان ساخنة علبة سجائر ذهبية وولاعتها، ثم نفض يده اليسرى لأسفل كي تدلى ساعته الذهبية على معصمه، وقبل أن ينبث بكلمة واحدة كان "الهزاز" قد نفش ذيله كالطاوس وبدأ يهز صدره ورقبته معلناً عن بداية العرض 
ـ قعدت شهرين في ليبيا من ساعة مودعتني أنت و"طاهر" ومع دخول الشتا وصلت مركب صيد صغيرة أخدتنا لإيطاليا وكان الجو برد جدا وصادفتنا "نوه" قبل الحدود ومات كتير مننا شباب زي الورد رمينا جثثهم في "المالح" وصل ربع الركاب لإيطاليا بس، ومن ساعتها "قضيتها" مطاردات مع الشرطة الإيطالية مرة ومع ولاد الليل مرة، ضربت وأضربت وكتير نمت في صناديق زبالة، لحد ما علقت بت إيطالية أتجوزتها وأخدت الإقامة وخلفت منها بنت أمها سميتها ماريا 
ـ ومجبتش بنتك معاك ليه علشان أهلك يشوفوها، وتفرجها على بلدها؟ 
رفع يده على نظارته ليتأكد أنها في موضعها مدارياً بها عينيه 
ـ أبدا، أمها بتخاف عليها شوية 
تأمله ملياً ثم رفع زجاجة الماء على فمه، وشرب منها قليلاً محتفظاً ببعض الماء في فمه، وأنتفض من جوار "مسعد" ذاهباً لأحد الزغاليل وسقاه الماء من فمه إلى منقاره، تلقى مسعد مكالمة على هاتفه الجوال نظر إلى رقم المتصل ثم أعتدل في وقفته 
ـ لازم أشوفك تاني يا حمام قبل ما أسافر 
أجابه وهو معطيه ظهره 
ـ ضروري 
فتح باب عشة "فرد حمام بلدي" عزله بالأمس بعدما كسر جناحه ليطمئن على أن جناحه مازال منضماً لإبطه في ضمادته، تأمله وهو يرثي لحاله مدركاً أنه لن يحلق مثلما كان … فتح شبكة سقف "الغية " مستدعياً نشوته بهديل الحمام الذي يشجيه أثناء لحظات تطيره ليشق عنان السماء وعيناه معلقاتان على سربه وهو يغدو يميناً ويساراً، تنفس الصعداء هابطاً بعينيه لأرض الواقع … حمل رايته ملوحاً بها ومطلقاً صفيره لأحلامه … المحلقة في سماءه وهي تهبط من حيث انطلقت

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق