سجل إعجابك بصفحتنا على الفيس بوك لتصلك جميع مقالاتنا

بحث فى الموضوعات

الجمعة، 12 أبريل 2013

قصة قصيرة: جرافيتى بقلم / وليد الزهيري

1/6/2012

اعتاد الجلوس في العتمة، متكأ على جدارٍ بارد صيف شتاء، لا يشاركه في ظلمته هذا الصباح سوى شعاع ضوء خافت، يأتيه عن يمينه مخترقاً نافذته ساقطاً على حائطه الأيسر، يتابع نموه وهو قابع في مكانه لا يحرك ساكناً، يزداد الشعاع سمكاً ودفئاً وقت الظهيرة متوسطاً حجرته، لا ترواح عيناه حينها ذلك الضوء يميناً أو يساراً معتدلاً في جلسته استعدادا لبدأ العرض.

يرى في شعاعه هذا شاشة سينمائية، يتخيل عليها ما يتمناه عبر ذرات الأتربة السابحة في ضوء الشمس، مشكلة لوحات متحركة، تارة يرى فيها ملامح شخص افتقده منذ زمن متجاذباً معه أطراف الحديث، أو نظرات حادة لأحد الذين تسلطوا عليه يوماً ما..حينها ما عليه إلا أن يملأ رئتيه مخرجاً زفيراً قوياً، يبعثر به تلك الذرات المتناثرة، معيداً تشكيل مشهده من جديد.

شاهد على شاشته اليوم طفولته في سنواتها الثمانية، يتوسط العابه يحاكيها وتحاكيه محاولاً بناء بيتاً من لعبة "الميكانو"، ارتعدت فرائسه حينما سمع صراخاً قادماً من بعيد:
ـ يا ضياااااااء.

انهارت لعبته من ارتباكه وهو يجيب:
ـ نعم يا ماما.
ـ مش قولت لك تبطل شخبطة على حيطان البيت؟

أجابها حانقاً:
ـ حاضر.

عبر أباه من أمام باب حجرته، يحيط رأسه بكفيه مجففاً شعره بالفوطة، أنزل طرفها عن عينيه، ونظر نحوه مبتسماً مهوناً عليه صريخ أمه.

في مشهده التالي كان مدرس لغته العربية في مرحلته الإعدادية واقفاً على السبورة يشرح لهم قواعد المبنى للمجهول والمبنى للمعلوم بوضع التشكيل على كل كلمة بأصابع الطباشير الملون، وعيناه لا تفارق يد مدرسه كلما انتهى من أصبع طباشير قذف ببقاياه في أحد الأركان، فور سماع صوت جرس الحصة أنقض على تلك البقايا الملونة، ترك حقيبته خلف ظهره في طريق عودته من المدرسة وبقايا الطباشير لا تغادر سبابته وإبهامه، راسماً خط بطول كل سيارة يمر عليها في طريق بيته، مستخدماً من طباشيره اللون المنسجم مع لون السيارة.

لمح تالياً تفاصيل فتاة مثيرة في وضع خليع، وهو يرسمها خلف باب حمام مدرسته الثانوية، وكلما مسحت إدارة المدرسة رسوماته من الحمامات، أعاد رسمها بتفاصيل أكثر إثارة مما كانت عليه، تتبعت الإدارة صيته الذائع والمعروف بين أقرانه بلقب (ضياء بيكاسو)، نال جراء شهرته اسبوع رفد، وفي ثاني أيامه أحضر له أبيه حقيبة، وضعها أمامه، وأدار ظهره خارجاً، فتحها وجد بها (علبة بخاخ رش أسود اللون يشبه المستخدم في دهان السيارات، بعض أغطية توضع فوق البخاخ بأحجام متباينة، أقلام خط شيني مختلفة الألوان، قطعة من الأسفنج، وأشياء أخرى)، بادر أبيه بسؤال قبل أن ينعطف من باب حجرته:
ـ أيه ده يا هندسة؟
ـ أدوات جرافيتي.
تابع مستغرباً:
ـ يعني أيه جرافيتي؟
ـ دور وأنت تعرف.
رأى تالياً تفوقه في سنته الأولى بكلية الفنون الجميلة بموهبته في التعبير بخطوط قليلة عن أشياء كثيرة.. لم يثنيه هذا عن ممارسة هوايته ليلاً وخفية بالرسم على الحوائط، لا تفارق أذناه سماعتان تصبان في رأسه موسيقى (الهيب هوب)، مستخدماً أدوات الجرافيتي في رسم ما يجول بخاطره، رافضاً الانصياع لأي تحذير يتلقاه من أصحاب تلك الحوائط.
تجاوز في سنته الدراسية الأخيرة التعبير برسوماته عن همومه الخاصة للتعبير عن هموم وطنه، مستخدماً جدرانه أينما كانت مستعيضاً عن سماع الهيب هوب، بترديده أغنية الشيخ إمام (أتجمعوا العشاق في سجن القلعة) كلما بدأ عمل ما، وعند انتهاء أغنيته يرددها ثانية وثالثة حتى ينتهي من رسم حلمه بعرض الوطن.
أعلنت الشمس عن نهاية العرض السينمائي، وعاد شعاعها الأخير إلى ما بدا عليه أول الصباح نحيفاً وحاداً ومدبباً، يشبه القلم الشيني الذي أحضره له أبيه يوماً ما، نهض من مكانه متعثراً في عتمته، محاولاً الإمساك بخيط الضوء الأبيض ليرسم بيديه على حائطه الأسود حلم الحرية .. لكنه سمع صليل قيوده.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق