أحمد عرابي في الميزان
8 \ 9 \ 2011
أهداف ثورة عرابي :ذكر محمد عبده في مذكراته عن الثورة العرابية أمرًا خطيرًا ، وهو أن قنصل فرنسا « أرسل إلى أحمد عرابي وإخوانه يقول لهم : إنه يسره ما يراه من صلابتهم في عزيمتهم ، واشتدادهم في المطالبة بالعدل فيهم ، فعليهم أن يثبتوا في مطالبهم ولا يُضعفهم ما يُهدَدون به ... » !! ( انظر : « الأعمال الكاملة » لمحمد عبده 1/528 و 531 ) اهـ .قالت الدكتورة زاهية مصطفى قدورة في كتابها «تاريخ العرب الحديث »(ص366) :« إن بداية الثورة العرابية كانت عسكرية تهدف إلى فتح المجال العام أمام المصريين للترقي في رتب الجيش ، لكنها تطورت إلى ثورة سياسية تشريعية تنادي بالديمقراطية وبالدستور .. » اهـ .وقال عبد الرحمن الرافعي في كتابه « ثورة 1919» (ص129) :«لا يخفى أن موقف هذا الرجل لا يزال محوطًا بأسرار كثيرة ، فإن التاريخ لم يكشف لنا حقيقة الدافع له على ما فعل ، ولم يبين لنا المؤثرات التي كان خاضعًا لها » اهـ .أما هو ـ أي عرابي ـ فيقول في مذكراته : « والله الذي لا إله إلا هو فالق الحب وبارئ النسمة أني ما خدمت بذلك دولة إنكلترا ولا فرنسا ولا كنت آلة لدولة ما » اهـ . فالله أعلم « مذكرات الزعيم أحمد عرابي » (ص61) .واستغلت إنجلترا اندفاع أحمد عرابي وعدم ترويه في اتخاذ القرارات ، فعملوا على استدراجه لخطوة غير محسوبة ، فأثاروا فتنة طائفية بالإسكندرية ، فرد عرابي على ذلك بإصلاح تحصينات الميناء ، فاعتبرت إنجلترا هذا عملًا عدائيًّا وقصفت الإسكندرية ، ثم احتلتها ، وحاول أحمد عرابي صد هجوم الإنجليز عدة مرات في كفر الدوار وفي التل الكبير ولكنه فشل ، واحتلت إنجلترا مصر وتم القبض على عرابي وكثير من أعوانه ، وحُكم عليه بالإعدام ، ثم خفف إلى النفي خارج البلاد ، فتم نفيه إلى جزيرة « سرنديب » سنة 1299هـ-1882م ، فمكث بها 19 سنة ، ثم أصدر الخديوي عباس حلمي قرارًا بالعفو عنه ، وإعادته إلى مصر ، فعاد ومكث في بيته .قال سفر الحوالي في « العلمانية » (ص574) :« وهذه الثورة العرابية لو قُدِّر لها أن تنجح فربما كانت سبقت مصطفى كمال أتاتورك بأشياء كثيرة فها هو محمود سامي البارودي أحد زعمائها يقول :« كنا نرمي منذ بداية حركتنا إلى قلب مصر جمهورية مثل سويسرا ، ولكنا وجدنا العلماء لم يستعدوا لهذه الدعوة ؛ لأنهم كانوا متأخرين عن زمنهم ، ومع ذلك فسنجتهد في جعل مصر جمهورية قبل أن نموت »
قال الصلابي :«لم يقتنع المهدي السنوسي بجدوى الثورة ، كأسلوب لتحقيق مطالب عرابي ؛ لأنها تتيح للأجانب التدخل ، وقد وضح هذا الرأي في رسالة بعث بها محمد الشريف أخو المهدي إلى الشيخ مصطفى المحجون شيخ زاوية الطيلمون بتاريخ شعبان 1306هـ بمناسبة قيام إحدى قبائل برقة بالعصيان على الدولة العثمانية ، إذ قال فيها : « ونرجو أن تكون الفتنة التي بالوطن قد طُفئت ؛ لأنها مخيفة سيئة العاقبة ، تشبه الفتنة العرابية التي من أجلها حلّ بالوطن الشرقي وأهله ما حلّ ؛ لأنهم يحركونها ويعجزون عنها فتكون العاقبة التسليم للأجانب ، فلو أنهم سلكوا طريقًا غير هذا لكان أسهل وآمن عاقبة ولسوف تكشف الأيام الكثير عن خبايا الثورة العرابية »
قال مصطفى غزال في « دعوة الأفغاني في ميزان الإسلام » (ص123) :«كان بلنت من أشد الناس تفانيًا في مصالح الإنجليز ، رغم أنه يتظاهر بصداقته للشرق المتمثل بالشعوب التابعة لتركيا ، وبعدائه للحكومات البريطانية ، بل كان أحيانًا يتظاهر بالدفاع عن قضايا الشعوب الشرقية ، ويقف بجانبهم ، كما وقف بجانب عرابي ودافع عنه بعد أسره ، كان هذا نوعًا من الدهاء والحنكة الإنجليزية » اهـ .ويقول مصطفى غزال أيضًا « دعوة الأفغاني في ميزان الإسلام » (ص124) :« وهو ( بلنت ) واضع كتاب « مستقبل الإسلام » الذي يدعو فيه إلى هدم الخلافة الإسلامية ، بنقلها من السلاطين العثمانيين إلى العرب الضعفاء ، ويدعو إلى الاعتماد على الإنجليز في إقامة خلافة إسلامية قوية ! » اهـ .ويقول مصطفى غزال أيضًا « دعوة الأفغاني في ميزان الإسلام » (ص124) :« بلنت شجع عرابي على الثورة ، وهو يعلم أنه ضعيف لا يستطيع الوقوف أمام جيوش الاحتلال ، وهو الذي زين لعرابي الحكم الجمهوري » اهـ .ويقول مصطفى غزال « دعوة الأفغاني في ميزان الإسلام » (ص124) :« بلنت أودى بصاحبه عرابي وثورته وبلاده إلى الهاوية ، ومع ذلك لم يفطن عرابي لخطره ، بل بقي على صداقته له بعد ذلك » اهـ .وكان ( بلنت ) على صداقة حميمة بمحمد عبده والأفغاني وأحمد عرابي :والغريب أنه كان له اتصال وثيق بجميع من اشتغلوا بالمسألة المصرية من المصريين والأجانب منذ عهد عرابي إلى أن مات . فقد صادق محمد عبده وبقي يراسله وينشر أفكاره حتى بعد موت جمال الدين الأفغاني ، فهو الذي توسط لدى المعتمد البريطاني كرومر ، بعد احتلال مصر على أثر ثورة عرابي وطرد محمد عبده من مصر ، على إعادة الشيخ محمد عبده إلى مصر . ولما عاد محمد عبده إلى مصر كان أول هدف له هو ترك السياسة ومجانبة الخصام مع الحكومة البريطانية .ويقول الشيخ محمد الجنبيهي وهو من علماء الأزهر المعروفين بالصلاح والتقوى في كتابه « بلايا بُوزا » يعارض فكر طه حسين ومحمد عبده : يقول الجنبيهي في صلة محمد عبده باللورد كرومر وبالمستر بلنت : «لما شرعت القوة البريطانية في نفي الخونة العرابيين ، ذلك النفي الصوري ، كان نفي ابن عبده الغرابلي في البلاد الشامية وحده ليفتن فيها من أراد الله فتنته . فلما انقضت مدة النفي ، ورجع إلى الديار المصرية ، كانت ثقة اللورد كرومر به أكبر ثقة . فسكن في « منشية الصدر » بعيدًا عن عيون الرقباء وكانت الواسطة بينه وبين اللورد رجلًا إنكليزيًا اسمه « بلنت » .. » .يقول الدكتور محمد محمد حسين في كتابه « الإسلام والحضارة العربية » (ص94) بالهامش : « يرى المؤلف أن عرابي كان خائنًا ، وأنه كان يمثل الجناح الحربي في مدرسة الأفغاني ، بينما كان محمد عبده يمثل الجناح الفكري ، ويستدل على ذلك بصلتهما المشتركة وصلة أستاذهما الأفغاني من قبل بالمستر بلنت ، الذي كان يعمل على تمزيق الدولة الإسلامية . فالمستر بلنت ـ كما هو معروف ـ هو الذي تولى الدفاع عن عرابي في محاكمته ، وهو الذي أصدر بيانًا باسم الثورة العرابية نشره في جريدة التيمز ، يصف فيه الحزب الوطني الذي أعد للثورة بأنه « حزب سياسي لا ديني » « الاتجاهات الوطنية » (1/154) .
حركة عرابي إحدى ثمار فكر الأفغاني :يقول مصطفى غزال « دعوة الأفغاني في ميزان الإسلام » (ص157) :« الأفغاني قدم مصر بدعوة من الوزير رياض باشا ، الذي كان ( من أصل يهودي ، وكان ميالًا إلى الإنجليز والأجانب ، رغم أنه دخل في الإسلام ، والله أعلم بإسلامه ) ، يقول الصحافي والكاتب المشهور أديب إسحق ـ وهو أحد تلاميذ جمال الدين الأفغاني ـ تحت عنوان رياض باشا ما يأتي : هو من بيت الوزَّان ، من يهود مصر الأذكياء ، أقيم جده على وزانة النقود ، فأظهر الإسلام ، وتبعه بنوه من بعده » .وقال أيضًا : « يقول أبو رية : ( اتخذ السيد ! جمال الدين طوال حياته لتحقيق غاياته : وسائل الثورة السياسية ) » اهـ .ويقول أنور الجندي : « آمن جمال الدين بأن الثورة السياسية هي الوسيلة المثلى لتحقيق دعوته » اهـ .ويقول أيضًا : « كانت ثورة عرابي من تحريضه » .وقال أحمد سعيد نونو في « التحفة الندية في الفتنة العرابية » (ص66) :« اتفق المؤرخون على أن بذور الثورة في مصر قد وضعها جمال الدين الأفغاني ( قبل أن يُطرد من البلاد ) .. » اهـ .وقال أيضًا : « أوعز جمال الدين إلى تلاميذه إنشاء الصحف » اهـ .قال د . محمد حسين في « الإسلام والحضارة الغربية » (ص65) :« أنشأ الأفغاني في الإسكندرية « جمعية مصر الفتاة » ، ولم يكن فيها مصري حقيقي واحد ، وإنما كان أغلب أعضائها من شباب اليهود ..! كانت هذه الجمعية سرية وكان لها صحيفة تنطق باسمها هي صحيفة « مصر الفتاة » ذكر ذلك الشيخ محمد عبده في كتابه « أسباب الحوادث العرابية » ([4]) .ويظهر أنهم كانوا من الأتراك النازحين ؛ لأنه كان معروفًا عن الأتراك المعادين لسياسة السلطان عبد الحميد أنهم يهربون إلى مصر ، وإلا فما معنى قول الشيخ محمد عبده : « لم يكن فيها مصري واحد » . وقد كان لهذه الجمعية دور خطير في إدارة ثورة عرابي ، وهذا ما يجعلنا نشك في إخلاص أحمد عرابي في ثورته ، خاصة وأنه ثبت أنه ماسوني . ورغم أن هذه الجمعية تأسست في الإسكندرية ، إلا أنه أصبح لها فروع في مختلف المدن المصرية ، وكانت هذه الجمعية أشبه ما تكون بجمعية تركيا الفتاة ، التي حركت الثورة ضد السلطان عبد الحميد وانتهت بخلعه .وهنا يعلق الدكتور محمد حسين على التشابه بين هاتين الجمعيتين فيقول : « هذا التشابه بين الاسمين وبين الأهداف الثورية لكل منهما ، مع الاتفاق الزمني ؛ لأن مؤسس تركيا الفتاة على ما هو معروف هو مدحت المعاصر للثورة العرابية ، يوحي بوجود صلة ويؤيد وجود هذه الصلة أن عددًا كبيرًا من أعضاء الحزبين التركي والمصري كانوا من الماسون ، وأن الحزبين كليهما كانا متأثرين بمبادئ الثورة الفرنسية التي كان بعض زعمائها ومفكريها من الماسون أيضًا » . إذن لا بد أن تكون جذور هذين الحزبين واحدة ، ولا يستبعد أن تكون الماسونية هي التي أوعزت إلى جمال الدين الأفغاني بتشكيل هذا الحزب أو الجمعية .والذي يؤيد القول بأن هذه الجمعية كانت وراء ثورة عرابي وأن للماسونية الدور الأكبر في أمثال هذه الجمعيات السرية التي لا يعرف أعضاؤها ومحركوها ما جاء في البحوث التي نشرتها الجامعة الأمريكية في بيروت إذ تقول : « .. ويكفي أن نقول : أنه كان للماسونية دور كبير في هذه الجمعيات لم يكشف بعد ، ولم توضح جوانبه الخفية .. ونحن نعلم أن الجمعيات الماسونية وعلى رأسها مكالييري اليوناني ، قامت بدور كبير في حركة الانتفاض على حكم عبد الحميد في تركيا » .من خيانات الخديوي توفيق للمسلمين :في 22 يوليو 1882 ، عُقِد اجتماع في وزارة الداخلية ، حضره نحو خمسمائة من الأعضاء ، يتقدمهم شيخ الأزهر وقاضي قضاة مصر ومُفتيها ، ونقيب الأشراف ، فضلًا عن ثلاثة من أمراء الأسرة الحاكمة . وفي الاجتماع أفتى ثلاثة من كبار شيوخ الأزهر وهم « محمد عليش » و « حسن العدوي » و « الخلفاوي » بمروق الخديوي عن الدين ؛ لانحيازه إلى الجيش المحارب لبلاده .
هذا كلام المفكرين المعاصرين لفترة عرابي وما أنا إلا ناقلا لهذا الكلام ولكني أرى أن الثورة العرابية أو هوجة عرابي كما يطلقون عليها لم تكن نافعة بقدر ضررها وأنها كانت خطوة غير محسوبة ولم يسبقها فكر ولم تتحكم فيها عقول ما هي إلا حماسة على غيرمبادئ وهذا لا يكفي لإصلاح أمة أو بناء دولة لابد من عقول رشيدة ومبادئ هادفة يؤمن بها معظم الشعب وليس طائفة أو فريق وفقط لأن الأمة لا تقوم على فكر أفراد ولكن على ثقافة وقناعة شعب بأكمله والله أعلى وأعلم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق