سجل إعجابك بصفحتنا على الفيس بوك لتصلك جميع مقالاتنا

بحث فى الموضوعات

الخميس، 22 مارس 2012

مقالات سياسية: طبائع الاستبداد و مصارع الاستعباد عرض/ مروان محمد

بقلم الشيخ الجليل/ عبد الرحمن الكواكبى



التعريف بالشيخ عبد الرحمن الكواكبى

قبل الخوض فى ذلك المقال المختزل لكتاب الشيخ عبد الرحمن الكواكبى المسمى بطبائع الاستبداد و مصارع الاستعباد أرتأيت أن أكتب و لو نبذة مختصرة عن سيرة هذا الشيخ المجاهد و قد ولد في سنة 1271 هـ الموافق 1849 في مدينة حلب لعائلة لها شأن كبير. والده هو أحمد بهائي بن محمد بن مسعود الكواكبي، والدته السيدة عفيفة بنت مسعود آل نقيب وهي ابنة مفتي أنطاكية في سوريا, بدأ الكواكبي حياته بالكتابة إلى الصحافة وعين محرراً في جريدة الفرات التي كانت تصدر في حلب،وعرف الكواكبي بمقالاته التي تفضح فساد الولاة، ويرجح حفيده سعد زغلول الكواكبي أن جده عمل في صحيفة «الفرات» الرسمية سنتين تقريباً، براتب شهري 800 قرش سوري, وقد شعر أن العمل في صحيفة رسمية يعرقل طموحه في تنوير العامة وتزويدها بالأخبار الصحيحة،ولذلك رأى أن ينشئ صحيفة خاصة، فأصدر في حلب صحيفة «الشهباء» عام 1877، وكانت أول صحيفة تصدر باللغة العربية، وسجلها باسم صديقه كي يفوز بموافقة السلطة العثمانية أيامها وبموافقة والي حلب. لم تستمر هذه الصحيفة طويلاً، إذ لم تستطع السلطة تحمل جرأته في النقد.‏
تابع جهاده الصحفي ضد الاستبداد فأصدر عام [1879 باسم صديق آخر جريدة «الاعتدال» سار فيها على نهج «الشهباء» لكنها لم تستمر طويلاً فتوقفت عن الصدور, بعد أن تعطّلت صحيفتاه «الشهباء» و«الاعتدال»، انكبّ على دراسة الحقوق حتى برع فيها، وعيّن عضواً في لجنتي المالية والمعارف العمومية في حلب، والأشغال العامة (النافعة) ثم عضواً فخرياً في لجنة امتحان المحامين للمدينة, استمر الكواكبي بالكتابة ضد السلطة التي كانت في نظره تمثل الاستبداد، وعندما لم يستطع تحمل ما وصل اليه الأمر من مضايقات من السلطة العثمانية في حلب، سافر الكواكبي إلى آسيا: الهند والصين وسواحل شرق آسيا وسواحل أفريقيا وإلى مصر حيث لم تكن تحت السيطرة المباشرة للسلطان عبد الحميد، وذاع صيته في مصر وتتلمذ على يديه الكثيرون, ألف العديد من الكتب وترك تراثاً ادبياً كبيراً من الكتب منها طبائع الاستبداد وأم القرى كما ألف العظمة لله وصحائف قريش وقد فقد مخطوطان مع جملة أوراقه ومذكراته ليلة وفاته.
و أما فيما يخص كتابه المطروح اليوم فى المقال فأنه كتب رؤوس مقالات "طبائع الاستبداد" في حلب، وكان يعدلها باستمرار، ثم وسع تلك الأبحاث ونشرها في هذا الكتاب و الذى صدر عام 1902.

نشر أجزاء من الكتاب بتصرف

و فى محاولة منى لمشاركة القراء الفرصة لقراءة هذا الكتاب القيم الرائع فقد قمت بعملية اقتباسات لفقرات محددة تحت كل عنوان من العناوين الواردة فى هذا الكتاب حتى لا يمل القارىء, و قد حاولت فى ذلك قدر استطاعتى لأوصل المغزى من هذا الكتاب بأسلوب مختصر و لا يخل بالقيمة الأدبية و الفكرية لهذا الكتاب على أمل أن ينال أعجابكم هذا الكتاب الذى سعيت لاختزاله فى مقال واحد بدون أن أتدخل بأى شكل فى إعادة صياغة الفقرات أو الاضافة إليها و قد فكرت فى بادىء الأمر أن اتبعها ببعض التعليقات و الشروحات و لكنى عدلت عن هذه الفكرة حتى لا أؤثر على توجهات القارىء الفكرية و لا أضعه فى خانة أو زواية معينة يطلع من خلالها على هذا الكتاب, تاركا للقارىء الكريم الحكم بنفسه على ما ورد فى هذا المقال من أقوال الشيخ عبد الرحمن الكواكبى فى شأن طبائع الاستبداد.

ما هو الاستبداد؟

الاستبداد لغة هو: غرور المرء برأيه, و الأنفة عن قبول النصيحة, او الاستقلال فى الراى و فى الحقوق المشتركة
الاستبداد فى اصطلاح السياسين هو: تصرف فرد أو جمع فى حقوق قوم بالمشيئة و بلا خوف تبعة و أما تعريفه بالوصف فهو: ان الاستبداد صفة للحكومة المطلقة العنان, فعلا أو حكما, التى تتصرف فى شئون الرعية كما تشاء بلا خشية حساب و لا عقاب محققين. و تفسير ذلك هو كون الحكومة إما هى غير حكومة مكلفة بتطبيق تصرفها على شريعة, أو على أمثلة تقليدية. أو على إرادة الأمة, و هذه حالة الحكومات المطلقة.
و يكفى هنا الإشارة إلى أن صفة الاستبداد, كما تشمل حكومة الفرد المطلق الذى تولى الحكم بالغلبة أو الوراثة, تشمل أيضا الحاكم الفرد المقيد المنتخب متى كان غير مسئول, و تشمل حكومة الجمع و لو منتخبا, لأن الاشراك فى الرأى لا يدفع الاستبداد, و إنما يعدله الاختلاف نوع, و قد يكون عند الاتفاق أضر من استبداد الفرد. و يشمل أيضا الحكومة الدستورية المفرقة فيها بالكلية قوة التشريع عن قوة التنفيذ و عن قوة المراقبة, لأن الاستبداد لا يترفع ما لم يكن هناك ارتباط فى المسئولية, فيكون المنفذون مسئولين لدى المشرعين, و هؤلاء مسئولون لدى الأمة, تلك الأمة التى تعرف أنها صاحبة الشأن كله, و تعرف أن تراقب و أن تتقاضى الحساب.
و أشد مراتب الاستبداد التى يتعوذ بها من الشيطان هى حكومة الفرد المطلق, الوارث للعرش, القائد للجيش, الحائز على سلطة دينية.
و من الأمور المقررة طبيعة و تاريخيا أنه؛ ما من حكومة عادلة تأمن المسئولية و المؤاخذة بسبب غفلة الأمة أو التمكن من إغفالها إلا و تسارع إلى التلبيس بصفة الاستبداد, و بعد أن تتمكن فيه لا تتركه و فى خدمتها إحدى الوسيلتين العظيمتين: جهالة الأمة, و الجنود المنظمة. و هما أكبر مصائب الأمم و أهم معائب الإنسانية,و لقد تخلصت الأمم المتمدنة- نوعا ما من الجهالةو لكن؛ بليت بشدة الجندية الجبرية العمومية؛ تلك الشدة التى جعلتها أشقى حياة من الأمم الجاهلة, و ألصقت عارا بالإنسانية من أقبح أشكال الاستبداد, و أما الجندية فتفسد أخلاق الأمة؛ حيث تعلمها الشراسة و الطاعة العمياء و الاتكال, و تميت النشاط و فكرة الاستقلال, و تكلف الأمة الإنفاق الذى لا يطاق؛ و كل ذلك منصرف لتأييد الاستبداد المشئوم.
من أقبح أنواع الاستبداد استبداد الجهل على العلم, و استبداد النفس على العقل, و يسمى استبداد المرء على نفسه, و ذلك أن الله جلت نعمة خلق الإنسان حرا, قائده العقل, الاستبداد: هو نار غضب الله فى الدنيا, و الجحيم نار عضبه فى الآخرة, الاستبداد: أعظم بلاء, يتعجل الله به الانتقام من عباده الخاملين, و لا يرفعه عنهم حتى يتوبوا توبة الأنفة, فالمستبدون يتولاهم مسبد, و الأحرار يتولاهم الأحرار, و هذا صريح معنى:" كما تكونوا يولى عليكم"

الاستبداد و الدين

تضافرت أراء أكثر العلماء الناظرين فى التاريخ الطبيعى للأديان, على أن الاستبداد السياس متولد من الاستبداد الدينى, و البعض القليل يقول: إن لم يكن هناك توليد فهما أخوان؛ أبوهما التغلب و أمهما الرياسة, أو هما صنوان قويان؛ بينما رابطة الحاجة على التعاون لتذليل الإنسان.
و هذه الحال؛ خى التى سهلت فى الأمم الغابرة المنحطة دعوى بعض المستبدين الألوهية على مراتب مختلفة, حسب استعداد أذهان الرعية, حتى يقال: إنه ما من مستبد سياسى إلى الآن إلا و يتخذ له صفة قدسية يشارك بها الله, أو تعطيه مقام ذى علاقة مع الله. و لا أقل من أن يتخذ بطانة من خدمة الدين يعينونه على ظلم الناس باسم الله, و أقل ما يعينون به الاستبداد, تفريق الأمم إلى مذاهب و شيع متعادبة تقاوم بعضها بعضا, فتتهاتر قوة الأمة و يذهب ريحها, فيخلو الجو للاستبداد ليبيض و يفرخ, و الحاصل أن كل المدققين السياسيين يرون أن السياسة و الدين يمشيان متكاتفين, و يقدرون أن إصلاح الدين أسهل و أقوى و أقرب طريق للإصلاح السياسى
و قد عدد الفقهاء من لا تقبل شهادتهم لسقوط عدالتهم, فذكروا حتى من يأكل ماشيا فى الأسواق< و لكن شيطان الاستبداد أنساهم أن يفسقوا الأمراء الظالمين فيردوا شهادتهم. و لعل الفقهاء يعذرون بسكوتهم هنا مع تشنيعهم على الظالمين فى مواقع أخرى. و لكن ما عذرهم فى تحويل معنى الآية: " و لتكن منكم أمة يدعون إلى الخير و يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر" – آل عمران: 104
إلى أن هذا الفرض هو فرض كفاية لا فرض عين؟ و المراد منه سيطرة أفراد المسلمين بعضهم على بعض لا إقامة فئة تسيطر على حكامهم كما اهتدت إين جاء فقهاء الاستبداد بتقديس الحكام عن المسئولية حتى أوجبوا لهم الحمد إذا عدلوا, و أوجبوا الصبر عليهم إذا ظلموا, و عدوا كل معارضة لهم بغيا يبيح دماء المعارضين؟!
اللهم, إن المستبدين و شركاءهم قد جعلوا دينك غير الدين الذى أنزلت, فلا حول و لا قوة إلا بك!, كما حرفوا معنى الآية: " و المؤمنون و المؤمنت بعضهم أولياء بعض" التوبة : 71
إلى ولاية الشهادة دون الولاية العامة. و هكذا غيروا مفهوم اللغة, و بدلوا الدين, و طمسوا على العقول حتى جعلوا الناس ينسون لذة الاستقلال, و عزة الحرية, ب جعلوهم لا يعقلون كيف تحكم أمة نفسها بنفسها دون سلطان قاهر.
و كأن المسلمين لم يسمعوا بقول النبى عليه السلام: " الناس سواسية كأسنان المشط, لا فضل لعربى على أعجمى إلا بالتقوى" و قد ظهر مما تقدم أن الإلامية مؤسسة عى أصول الحرية برفعها كل سيطرة و تحكم, بامرها بالعدل و المساواة و القسط و الإخاء, بحضها على الإحسان و التحابب.
الدين الذى ظلمه الجاهلون, فهجروا حكمة القرآن و دفنوها فى قبور الهوان. الدين الذى فقد الأنصار و الأبرار و الحكماء الأخيار, فسطا عليه المستبدون و المترشحشون للاستبداد, و اتخذوه وسيلة لتفريق الكلمة و تقسيم الأمة شيعا, و جعلوه آلة لأهوائهم السياسية, فضيعوا مزاياه,و حيروا أهله بالتفريع و التوسيع, و التشديد و التشويش. و إدخال ما ليس منه فيه كما فعل قبلهم أصحاب الأديان السائرة.
و بهذا التشديد الذى أدخله عى الدين منافسو المجوس, انفتح على الأمة باب التلوم على النفس و اعتقاد التقصير المطلق, و أن لا نجاة و لا مخرج و لا إمكان لمحاسبة النفس فضلا عن محاسبة الجاكم المنوط بهم قيام العدل و النظام. و هذا الإهمال للمراقبة, و هو إهمال الامر بالمعروف و النهى عن المنكر, قد أوسع لأمراء الإسلام مجال الاستبداد و تجاوز الحدود. و بهذا و ذاك ظهر حكم حديث:" لتأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر أو ليستعملن الله عليكم شراركم فليسومونكم سوء العذاب"
و الناظر المدقق فى تاريخ الإسلام يجد للمستبدين من الحلفاء و الملوك الأولين, و بعض علماء الأعاجم, و بعض مقلديهم من العرب المتأخرين أقوالا افتروها على الله و رسوله تضليلا للامة عن سبيل الحكمة, يرويدون بها إطفاء نور العلم و إطفاء نور الله.

الاستبداد و العلم

ما أشبه المستبد فى نسبته إلى رعيته بالوصى الخائن القوى, يتصرف فى أموال الأيتام و أنفسهم كما يهوى ما داموا ضعافا قاصرين, فكما أنه ليس من صالخ الوصى أن يبلغ الأيتام رشدهم, كذك ليس من غرض المستبد أن تتنور الرعية بالعلم.
لا يخفى على المستبد مهما كان غبيا, أن لا استعباد و لا اعتساف إلا ما دامت الرعية حمقاء تخبط فى ظلمة جهل و تيه عماء, المسبتد لا يخشى علوم اللغة, تلك العلوم التى بعضها يوقم اللسان و أكثرها هزل و هذيان يضيع به الزمان, نعم, لا يخاف علم اللغة إذا لم يكن وراء اللسان حكمة حماس تعقد الألوية, أو سحر ببيان يحل عقد الجيوش, و كذلك لا يخاف المستبد من العلوم الدينية المتعلقة بالمعاد, المختصة ما بين الإنسان و ربه, لاعتقاده أنها لا ترفع غباوة و لا تزيل غشاوة, إنما تلهى بها المتهوسون للعلم, حتى إذا ضاع فيها عمرهم و امتلأت بها أدمغتهم, و أخذ منهم الغرور ما أخذ, فصاروا لا يرون علما غير علمهم, فحينئذ يأمن المستبد منهم كما يؤمن شر السكران إذا خمر, على أنه إذا نبغ منهم البعض و نالوا حرمة بين العوام لا يعدم المستبد وسيلة لاستخدامهم فى تأييد أمره و مجاراة هواه فى مقابلة أنه يضحك عليهم بشىء من التعظيم, و يسد أفواههم بلقيمات من فتات مائدة الاستبداد, و كذلك لا يخاف من العلوم الصناعية محضا, لأن أهلها يكونون مسالمين صغار النفوس, صغار الهمم, يشتريهم المستبد بقليل من المال و الإعزاز, و لا يخاف من الماديين, لأن أكثرهم مبتلون بإيثار النفس, و لا من الرياضيين, لأن غالبهم قصار النظر.
ترتعد فراض المسبد من علوم الحياة مثل الحكمة النظرية, و الفلسفة العقلية, و حقوم الأمم و طبائع الاجتماع, و السياسة المدنية, و التاريخ المفصل, ة الخطابة الأدبية, و نحو ذلك من العلوم التى تكبر النفوس, و توسع العقول, و تعرف الإنسان ما حقوقه و كم هو مغبون, و كيف الطلب, و كيف النوال, و كيف الحفظ, و أخوف ما يخاف المستبد من أصحاب هذه العلوم, المندفعين منهم لتعليم الناس بالخطابة أو الكتابة وهم المعبر عنهم فى القرآن بالصالحين و المصلحين فى نحو قوله عالى: " أن الأرض يرثها عبادى الصلحون" الانبياء:105
و إن كان علماء الاستبداد يفسرون مادة الصلاح و الإصلاح بكثرة التعبد كما حولوا معنى مادة الفساد و الإفساد: من تخريب نظام الله إلى التشويش على المستبدين
و الخلاصة: أن المستبد يخاف من هؤلاء العاملين الراشدين المرشدين, لا من العلماء المنافقين أو الذين حشوا رءوسهم محفوظات كثيرة كأنها مكتبات مقفلة!
كما يبغض المستبد العلم و نتائجه, يبغضه أيضا لذاته, لأن للعلم سلطانا أقوى من كل سلطان, فلابد للمستبد من أن يستحقر نفسه كلما وقعت عينه على من هو أرقى منه علما. و لذلك لا يحب المستبد أن يرى وجه عالم عاقل يفوقه فكرا, فإذا اضطر لمثل الطبيب و المهندس يختار الغبى المتصاغر المتملق.
و ينتج مما تقدم ان بين الاستبداد و العلم حربا دائمة و طرادا مستمرا: يسعى العلماء فى تنوير العقول, و يجتهد المستبد فى إطفاء نورها, و الطرفان يتجاذبان العوام, و من هم العوام؟ هم أولئك الذين إذا جهلوا خافوا, و إذا خافوا استسلموا, كما أنهم هم الذين متى علموا قالوا, و متى قالوا فعلوا.
العوام هم قوة المستبد و قوته. بهم عليهم يصول و يطول, يأسرهم فيتهللون لشوكته, و يغصب أموالهم فيحمدونه على إبقائه حياتهم, و يهينهم فيثنون على رفعته, و يغرى بعضهم على بعض فيفتخرون بسياسته, و إذا أسرف فى أموالهم يقولون: كريما, و إذا قتل منهم و لم يمثل يعدونه رحيما, و يسوقهم إلى خطر الموت, فيطيعونه حذر التوبيخ, و إن نقم عليهم منهم بعض الأباة قاتلوهم كأنهم بغاة.
و الحاصل أن العوام يذحون أنفسهم بأيديهم بسبب الخوف الناشىء عن الجهل و الغباوة, فإذا ارتفع الجهل و تنور العقل زال الخوف, و أصبح الناس لا ينقادون طبعا لغير منافعهم, كما قيل: العاقل لا يخدم غير نفسه, و عند ذلك لابد للمستبد من الاعتزال أو الاعتدال. و كم أجبرت الأمة بترقيتها المستبد اللئيم على الترقى معها و الانقلاب على رغم طبعه, إلى وكيل أمين يهاب الحساب, و رئيس عادل يخشى الانتقام, و أب حليم يتلذذ بالتحابب. و حينئذ تنال الأمة حياة رضية هنية, حياة رخاء و نماء, حياة عزة و سعادة.
و كلما زاد المستبد ظلما و اعتسافا زاد خوفه من رعيته و حتى من حاشيته, و حتى من هواجسه و خيالاته. و أكثر ما تختم حياة المستبد بالجنون التام. قلت: (التام)؛ لأن المستبد لا يخلو من الحمق قط, لنفوره من البحث عن الحقائق, و إذا صادف وجود مستبد غير أحمق فيسارعه الموت قهرا إذا لم يسارعه الجنون أو العته, و قلت : إنه يخاف من حاشيته, لان أكثر ما يبطش بالمستبدين حواشيهم, لأن هؤلاء هم أشقى خلق الله حياة, يرتكبون كل جريمة و فظيعة لحساب المستبد الذى يجعلهم يمسون و يصبحون مخبولين مصروعين, يجهدون الفكر فى استطلاع ما يريد منهم فعله بدون أن يطلب أو يصرح. فكم ينقم عليهم و يهينهم لمجرد أنهم لا يعلمون الغيب.
و يقول أهل النظر: إن خير ما يستدل به على درجة استبداد الحكومات, هو تغاليها فى شنآن الملوك, و فخامة القصور, و عظمة الحفلات, و مراسيم التشريفات, و علائم الأبهة, و نحو ذلك من التمويهات الى يتسرهب بها الملوك رعاياهم عوضا عن العقل و المفاداة, و هذه التمويهات يلجأ إليها المستبد كما يلجأ قليل العز للتكبر, و قليل العلم للتصوف, و قليل الصدق لليمين, و قليل المال لزينة اللباس.
و يقولون: إنه كذلك يستدل على عراقة الأمة فى الاستعباد أو الحرية باستنطاق لغتها, هل هى قليلة ألفاظ التعظيم كالعربية مثلا؟ أم هى غنية فى عبارات الخضوع كالفارسية؟ و كتلك اللغة التى ليس فيها بين المتخطابين أنا و أنت, بل سيدى و عبدكم؟!
قال المدققون: إن أخوف ما يخافه المستبدون الغربيون من العلم أن يعرف الناس حقيقة أن الحرية أفضل من الحياة, و ان يعرفوا النفس و عزها, و الشرف و عظمته, و الحقوق و كيف تحفظ,و الظلم و كيف يرفع, و الإنسانية و ما هى وظائفها, و الرحمة و ما هى لذاتها.
أما السمتبدون الشرقيون فأفئدتهم هواء ترتجف من صولة العلم, و كأن العلم نار و أجسامهم من بارود, المستبدون يخافون من العلم حتى من علم الناس معنى كلمة( لا أله ألا الله), و لماذا كانت أفضل الذكر؟ و لماذ بنى عليها الإسلام؟ ذلك أنه لا يعبد حقا سواه أى سوى الصانه الأعظم, و معنى العبادة و الخضوع و منها لفظة العبد, فيكون معنى لا أله ألا الله: " لا يستحق الخضوع شىء غير الله", فهل و الحالة هذه – يناسب غرض المستبدين أن يعلم عبيدهم أن لا سيادة و لا عبودية فى الإسلام و لا ولاية فيه و لا خضوع, إنما المؤمنون أولياء بعض؟ كلا, لا يلائم ذلك غرضهم. و ربما عدوا كلمة ( لا أله ألا الله) شتما لهم! و لهذا؛ كان المستبدون و لازالوا من أنصار الشرك و أعداء العلم

الاستبداد و المجد

من الحكم البالغة للمتأخرين: " الاستبداد أصل لكل فساد", و مبنى ذلك أن البحث المدقق فى أحوال الشر و طبائع الاجتماع كشف أن للاستبداد أثرا سيئا فى كل واد, و دق سبق أن الاستبداد يضغط على العقل فيفسده, و يلعب بالدين فيفسده,و يحارب العلم فيفسدهو إنى الآن أبحث فى أنه كيف يغالب الاستبداد المجد فيفسده, و يقيم مقامه التمجد.
المجد: هو إحراز المرء مقام حب و أحترام فى القلوب، و هو مطلب طبيعى شريف لكل إنسان, لا يترفع عنه نبى أو زاهد, و لا ينحط منى دنى أو خامل. للمجد لذة روحية تقارب لذة العبادة عند المتفانين فى الله تعالى,و تعادل لذة العلم عند الحكماء, و تربو على لذة امتلاك الأرض مع ثمرها عند الأمراء, و تزيد على لذة مفاجاة الإثراء عند الفقراء. و لذا يزاحم المجد فى النفوس منزلة الحياة.
المجد لا ينال إلا بنوع من البذل فى سبيل الجماعة, و بتعبير الشرقيين: فى سبيل الله أو سبيل الدين, و بتعبير الغربيين: فى سبيل المدنية أو سبيل الإنسانية. و المولى تعالى المستحق التعظيم لذاته- ما طالب عبيده بتمجيده إلا و قرن الطلب بذكر نعمائه عليهم.
و هذا البذل إما بذل مال للنفع العام, و يمسى مجد الكرم, و هو أضعف المجد, أو بذل العلم النافع المفيد للجماعة, و يمسى مجد الفضيلة, أو بذل النفس بالتعرض للمشاق و الأخطار فى سبيل نصرة الحق و حفظ النظام, و يمسى مجد النبالة, و هذا أعلى المجد و يقابل المجد من حيث ميناه, التمجد. و ما هو التمجد؟ و ماذا يكون التمجد؟ التمجد لفظ هائل المعنى, التمجد خاص بالإدارات المستبدة, و هو القربى من المستبد بالفعل كالأعوان و العمال, أو بالقوة كالملقبين بنحو دوق و بارون, و المخاطبين بنحو رب العزة و رب الصولة, أو الموسومين بالنياشين, أو المطوقين بالحمائل, و بتعريف آخر, التمجد هو أن ينال المء جذوة نارمن جهنم كبرياء المستبد ليحرق بها شرف المساواة فى الإنسانية.
المتمجدون يريدون أن يخدعوا العامة, و ما يخدعون غير نسائهم اللاتى يتفحفحن بين عجائز الحى بأنهم كبار العقول, كبار النفوس, احرار فى شئونهم لا يزاح لهم نقاب, و لا تصفع منهم رقاب, فيحوجهم هذا المظهر الكاذب لتحمل الإساءات و الإهانات التى تقع عليهم من قبل المستبد, بل تحوجهم للحرص على كتمها, بل على إطهار كعكسها, بل على مقاومة من يدعى خلافها, بل على تغليظ أفكار الناس فى حق المستبد و إبعادهم عن اعتقاد أنه من شأنه الظلم.
و هكذا يكون المتمجدون أعداء للعدل أنصارا للجور, لا دين و لا وجدان و لا شرف و لا رحمة, و هذا ما يقصده المستبد من إيجادهم و الإكثار منهم ليتمكن بواسطتهم من أن يرر الأمة على إضرار نفسها تحت أسم منفعتها, فيسوقها مثلا لحرب اقتضاها محض التجبر و العدوان على الجيران, فيوهمها أنه يريد نصرة الدين, أو يسرف بالملايين من أموال الأمة فى ملذاته و تأييد استبداده باسم حفظ شرف الأمة و أبهة المملكة, أو يستخدم الأمة فى التنكيل بأعداء ظلمه باسم أنهم أعداء لها, أو يتصرف فى حقوق المملكة و الأمة كما يشاؤه هواه باسم أن ذلك من مقضى الحكمة و السياسة.
المستبد لا يستغنى عن أن يستمجد بعض أفراد من ضعاف القلوب الذين هم كبقر الجنة لا ينطحون و لا يرمحون, يتخذهم كنموذج البائع الغشاش, على أنه لا يستعملهم فى شىء من مهامه, فيكونون لديه كمصحف فى خمارة أو سبحة فى يد زنديق, و ربما لا يستخدم أحيانا بعضهم فى بعض الشئون تغليظا لأذهان العامة فى أنه لا يعمد استخدام الأراذل و الأسافل فقط, و لهذا يقال: دولة الاستبداد دولة بله و أوغاد.
المسبتد يحب أحيانا فى المناصب و المراتب بعض العقلاء الأذكياء أيضا اغترارا منه بانه يقوى على تليين طينتهم و تشكيلهم بالشكل الذى يريد, فيكونون له أعوانا حبثاء ينفعونه بدهائهم, ثم هو بعد الجربة إذا خاب و يئس من إفسادهم يتبادر إبعادهم أو ينكل بهم, و لهذا لا يستقر عنده المستبد إلا الجاهل العاجز الذى يعبده من دون الله, أو الخبيث الخائن الذى يرضيه و يغضب الله.

المصدر: كتاب: طبائع الاستبداد و مصارع الاستعباد - للشيخ عبد الرحمن الكواكبى - صدر عن مجلة الازهر كهدية مجانية لشهر ذى الحجة 1432هـ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق