(وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين ) 144 ) سورة آل عمران
قال البخاري : حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا الليث ، عن عقيل عن ابن شهاب ، أخبرني أبو سلمة ، أن عائشة ، رضي الله عنها ، أخبرته أن أبا بكر ، رضي الله عنه ، أقبل على فرس من مسكنه بالسنح حتى نزل فدخل المسجد ، فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة فتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 129 ] وهو مغشى بثوب حبرة ، فكشف عن وجهه [ صلى الله عليه وسلم ] ثم أكب عليه وقبله وبكى ، ثم قال : بأبي أنت وأمي . والله لا يجمع الله
عليك موتتين ، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها .
وخرج أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – وقال : من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت
هكذا ينظر الإسلام إلى الدولة فإن الدولة في الإسلام دولة مؤسسات لا دولة أفراد ولو كان الفرد هو من هو وهذا القول التاريخي المدوي عبر التاريخ الذي قاله الله تبارك وتعالى في كتابه يتلى إلى يوم القيامة وفسرها أبو بكر الصديق ومن قبله رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حين جاءته امرأة وقالت له إن جئت ولم أجدك كي أسأل ماذا أفعل قال لها تجدين أبا بكر إشارة منه صلى الله عليه وسلم أن الأمر لايتوقف بزوال الفرد فديننا لا يعتمد على أفراد وكذلك دولتنا لا تعتمد على الأفراد ومن هذا المنطلق نقول لليبراليين في كل مكان وزمان اسمع وتفكر وتعرف على الفرق ثم اعط لنفسك فرصة للحكم وتحكيم العقل والمنطق
قبل الثورة الفرنسية لم تكن أوروبا تدرك الفوارق بين شخص الحاكم والنظام السياسي للدولة.. حيث كان الملك أو الأمير يفعل ببلاده ورعاياه ما يحلو له دون معقب.. وكانت الكنيسة طليقة النفوذ في كل الممالك.. ينفذ أمرها في حق الملوك والرعايا على حدٍ سواء.
وحين أعلنت الثورة الفرنسية مبادئها وبدأت في محاولاتها لتغيير النظم السياسية في كل أوروبا.. وقالوا اشنقوا آخر إقطاعي بأمعاء آخر قسيس.. فنشأت بعدها النظم الجمهورية وتروضت الممالك الأوروبية لتهذب من تسلطها وتصبح ملكية دستورية وعرفوا في معظم دول أوروبا ما أسموه المؤسسات الحاكمة ونظم وأساليب الحكم .. وقلصوا من نفوذ البابا والكنيسة.
وقد ظنوا- كما يظن كثيرٌ من العلمانيين في بلادنا- أنهم أول من عرفوا هذه المفاهيم وراحوا يصدرونها لشعوبٍ افترضوا سلفاً أنها أقل منهم رقيا وفهماً.. وتوافدت عليها البعثات التعليمية من بلاد الشرق ليجدوا في دهماء طلابها من يروجون لهذه المزاعم.. ويكونّون رأس الحربة للتبشير بالاستعمار.
وحين دست أوروبا أنفها في بلادنا باسم الاستعمار- فرنسياً كان أو بريطانياً - وهم يطنطنون حول العلمانية وجمالها وضرورة الفصل التام بين الدولة والسياسة من ناحية.. وبين الدين والعبادة.. وجدوا من ببغاواتنا من يكرر على أسماعنا إلى اليوم هذه الترهات دون أدنى تقدير للفوارق الكثيرة بين شريعة الإسلام والديانة المسيحية.
واعتبروا أن سلطة الكنيسة في أوروبا القرون الوسطى هي أخت علماء الإسلام وخلفاء الدولة الإسلامية.. وشنوا الحرب على كل من يدعو للإسلام وشبهوا دعاتنا المدنيين بأساقفة أوروبا.. مع أن القارئ لتاريخ أوروبا يعرف ما كان من استبداد الملوك عموما ً.. ورجال الدين على وجه الخصوص.
فقد كان للبابا في أوروبا نفوذه المذل لكل الملوك.. حتى أنه كان يعاقب الملوك، فقد عوقب ملك ألمانيا بالحج سيرا على الأقدام حافيا حاسر الرأس.. وقضوا عقودا ً عديدة منذ القرن الماضي وحتى اليوم يكررون على مسامعنا ومعهم جوقة من صنائعهم في بلادنا عيوب الدولة الدينية، وفداحة حكم رجال الدين – كما يسمونهم- واضعين كل تاريخهم المخزي وتعصبهم وجهلهم كخلفية لأحوالنا.. متصورين أنهم يعالجون بلادنا نحن من خطاياهم هم.
ليس ذلك في النظم السياسية فحسب.. بل وفي الموقف من المرأة ومن العلم ومن كل مخالف لهم في دين أو مذهب أو لون.. مع أن الإسلام وتاريخه براء من كل أفعالهم الشنيعة وماضيهم الملوث.. ذلك أن الخطاب الإسلامي منذ الأيام الأولى للتشريع وهو يربي المسلمين على الفهم المؤسساتي للدين والدولة كنسقٍ واحد متمازج.
فالخطاب الإسلامي الذي بيّن العقيدة الصحيحة ودلهم على التوحيد.. هو نفسه الذي تناول أحكام العبادات .
فتراه يتحدث عن تارك الصلاة وحبسه ثلاثة أيام حتى يصلي وإلا قتل حداً.. أما إذا جحدها فيقتل ردةً.
كما يتحدث في الصيام عن ثبوت رؤية الهلال ونظامه وعن تأديب المجاهر بالفطر وتقدير زكاة الفطر .
ويتحدث عن مصارف الزكاة ونصابها ووجوب مقاتلة الممتنع عنها.
ناهيك عن أحكام القضاء: كالشهادة وثبوت البينة والحدود والكفارات والديات والنكاح والطلاق والنفقات واللعان، والحسبة، والجهاد.
وكلها أحكام لا تقوم إلا في وجود نظام يحكم بالإسلام في العقيدة والعبادة.. كما في سائر الأحكام.
فالدولة إذاً هي حتمية فقهية تشريعية لازمة لإتمام أخص العبادات.
وللقرآن الكريم آياته البينات في الاقتصاد والاجتماع والمعاملات.. بل والعلاقات الدولية وكلها بآيات قطعية الثبوت.
فكيف يقصي المسلم جزء ً كبيراً من كتابه المقدس.. وأين تقام هذه الأحكام إذاً إن لم تضعها دولة ما بما يليق بها من تصديق وانصياع المؤمنين بها موضع التطبيق في حياة عملية ؟
ومثلما وضع البشر نظريات في الاقتصاد والسياسة.. ثم وجدت هذه الأفكار من يناضل لكي يطبقها في حياة البشر .. حتى صارت لهذه النظريات أنظمة حكم على الأرض.
فمن باب أولى ينبغي لأحكام السماء أن تجد من يجاهد لإقامتها إن الزعم بانتهاء الحاجة للدولة الإسلامية معناه إسقاط كل هذه الآيات - حاشا لله – التي تنظم المعاملات والحدود والجهاد والسياسة والاجتماع وغيرها كثير.
وهذا بدوره يعني تفريغ الإسلام من معظم أحكامه العملية .. وهو إسهام عمدي أو غير عمدي في الحرب على الإسلام.
ودولة الإسلام التي يتخوفون من وجودها.. دولة مؤسسات كأرقى وأعظم ما تكون .. ولا أثر في نظامها السياسي لما يسمى بالثيوقراطية:
فالحاكم تختاره الأمة – وقد جرت تطبيقات السلف الصالح على أكثر من نظام انتخابي .. لئلا يكون للناس حجةً علينا.. ثم يحكم وفق شريعة مدونة محفوظة بما فيها من نصوص وشروح وتفاسير بحسب معطيات متفق عليها حال كونها أسباب النزول في نظام بديع ودقيق يعرفه أهل أصول الفقه.
والحاكم لا يعلو على بقية أفراد الأمة في شيء ولا يتميز عنهم بمزية.. فهو مخاطب شرعاً بكل الأوامر والنواهي التي يكلف بها المؤمنون.
بل الأعباء والأحكام أشد عليه مما هي على الناس إذ هو المخاطب بآيات الحاكمية والشورى والجهاد وقد وعى التاريخ مشاهد وقوف الخلفاء إلى جوار العامة أمام القضاء .. بل إلى جوار يهودي.
فقد جاء في سيرة علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه اختصم مع يهودي في درع ضاع منه ورآه بيد اليهودي واحتكما إلى القاضي المسلم.
فسأل القاضي أمير المؤمنين عن بينة هذا الدرع.. فلما لم يجد سوى شهادة ولده قضى لصالح اليهودي فأخذ الدرع بحكمالقاضي المسلم.
كما حكت لنا كتب السير كيف راجعت امرأة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فقال: "أصابت امرأة .. وأخطأ عمر "
وليس لرأي الحاكم أي مزية على غيره ما لم يرتكز على قال الله.. قال الرسول وهو أشد افتقاراً لأهل الرأي - إن كان تقياً- من احتياجهم إليه.
ثم تطبق الأحكام على الناس سواسية بلا فرق بين ابن وزير وابن فقير والناس حين يقبلون على حكم الله يعرفون أنه يطبق عليهم بضوابط وشروط معينة.. فتستسلم لها أفئدتهم وقد قال تعالى:
" فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً "(النساء:65).
علمنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) " أنه لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها".
فهانت بعدها كل فاطمة.. ورفضت شفاعة حب رسول الله في حدٍ من الحدود، وصار للعدل آيات وأحكام وشواهد نفاخر بها الأمم على مرّ الزمان.
وليس هذا من إشراقات النبوة وخصوصياتها ولا من بركات الخلافة الراشدة فحسب .. بل تكرر في الأمة على فترات متباعدة ما بين القرن الثالث الهجري وحتى القرن الثاني عشر الهجري.. وفي أماكن متفرقة ما بين بلاد ما وراء النهر شرقا والمغرب الأقصى غربا.. وذلك لأنها مستمدة من منهج محفوظ " لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ".
وقد استفاضت عليه الشروح والتفاسير فلا يزال الحكام ينهلون منه كلما أرادوا بأنفسهم وأمتهم رشداً.. فعرفت الأمة عبر عمرها المديد أمثال عمر بن عبد العزيز وصلاح الدين الأيوبي وسيف الدين قطز ويوسف بن تاشفين، ومحمد بن عبد الوهاب، وغيرهم كثيرون..
فليس للناس إذاً من أعذار إن هم أخذوا بشرائع أعدائهم وتركوا منهاجهم الرشيد والله يقول لنا في القرآن:
" أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ " المائدة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق