شعرت أنه من الواجب قبل الحديث عن الفلسفة أن أذكر هنا بداية تعريف مبسط للفلسفة و أراها ضرورة لابد منها ربما لمن يسمع عنها و لا يعرفها و يريد أن يلقى نظرة أقرب على هذا الفكر الإنسانى الذى طالما كان مسار جدل و شك و اعتقاد و نفور و جذب و شد.
الفلسفة لفظة يونانية مركبة من الأصل فيليا أي محبّة وصوفيا أي الحكمة، أي أنها تعني محبة الحكمة. تستخدم كلمة الفلسفة في العصر الحديث للإشارة إلى السعي وراء المعرفة بخصوص مسائل جوهرية في حياة الإنسان ومنها الموت والحياة و الواقع و المعاني و الحقيقة.
ما هو الجديد الذى من الممكن أن أضيفه فى طرحى عن الفلسفة فى شكلها الأوسع, من أجل ذلك قررت أن أعرض لعدد من الأراء قد أقوم بالتعليق على بعضها بالرفض أو بالقبول و ربما ألتزم الحيادية فى البعض الآخر و أرتأيت أن أعرض لنشأة و تطور الفلسفة فى العالم العربى خاصة و الإسلامى عامة و أول ما يتبادر إلى الاذهان فى هذا المقام هو عرض قضية الفلسفة الصوفية لدى المتصوفة المسلمين و يقال أن من أهم النظريات في التصوف الفلسفي الإسلامى نظرية تسمى بالفناء في الله وهي نظرية أبي يزيد البسطامي الفارسي و ترتكز على فكرة الاتصال بالله و التفكير فيه و الجدير بالذكر أن الفلسفة الصوفية لها مردود فى كافة الأديان السماوية و الوضعية و لذلك نجد هذه الفكرة مطروحة في الديانة البوذية باسم نرڤانا.
والركيزة الأساسية التى تقوم عليها هذه النظرية التي انتشرت بين الفلاسفة المتصوفين أن الفناء يتخذ مظهرين: الأول بتغير أخلاقي تبتعد فيه الروح عن أدران الجسد والابتعاد عن الشهوات ولذات الحياة، والمظهر الثاني ينصرف الفكر فيها عن كل الموجودات إلى التفكير في خالقها وموجدها والاتصال به ويصف أبو الحسن سري بن المغلس السقطي، أحد علماء أهل السنة والجماعة ومن أعلام التصوف السني في القرن الثالث الهجري وأول من تكلم في بغداد في التوحيد وحقائق الأحوال، يقول عنه أبو عبد الرحمن السلمي أنه «إمام البغداديين وشيخهم في وقته». وكان تلميذ معروف الكرخي وخال الجنيد وأستاذه. حالة الفناء بقوله: "إنه لو ضرب بسيف على وجهه لما شعر به". و الفكر الصوفى الفلسفى متشعب و خرجت من تحت عباءته ما يعرف فى الإسلام بعلم الكلام و ظهر الكثير من المتكلمين و أصبحت لهم مدارس و فرق اقتتلوا و حاربوا بعض و كفروا بعضهم البعض بناء على تأملات فلسفية استغلها بعض الخلفاء فى العصر العباسى لصالح حسابات سياسية و تصفية معارضين و تقاتلت عليها مختلف الفرق الإسلامية من جهمية و معتزلة و قدرية و مرجئة و باطنية و غيرها من الفرق التى يعب على الإنسان حصرها جميعا و من أشهر القضايا الفلسفية التى أثارت الجدل فى العصر العباسى هو قضية خلق القرآن التى رفضها الإمام أحمد بن حنبل و سجن بسببها فى عصر الخليفة العباسى محمد الأمين و أنهى الجدل المثار حولها الخليفة المعتصم و منع الكلام فيها و أيضا فكرة أن الإنسان مسير أم مخير و التى خرجت من تحت عبائتها فرق اختلفت و كفرت بعضها البعض و هناك اتجاه فى الفكر الإسلامى يرفض الفكر الفلسفى فى الإسلام باعتباره فكر هدام يطرح أسئلة ميتافزيقية نهى عنها الإسلام تبحث فى وجود الله و ما كان الأمر قبل الله و أين كان العالم قبل الله و غيرها من الأسئلة التى امتنع الاسلام فى الإجابة عنها باعتبارها من الأسرار الألهية التى لم يفصح عنها و نهى فى السؤال فيها أيضا و قد قام أبو حامد الغزالى بتأليف كتاب يهاجم الفلاسفة الإسلامين و سماه بتهافت الفلاسفة فرد عليه من الأندلس الفيلسوف الإسلامى ابن رشد بكتاب آخر سماه تهافت التهافت و إلى يومنا هذا لم يحسم الصراع بشأن استخدام الفلسفة فى النظر إلى القضايا الإسلامية و العقائدية خصوصا و التنفير من استخدامها و تلاسن مختلف الفرق مع بعضها البعض بسبب الفكر الفلسفى فى الإسلام.
الفكر الفلسفى كما أراه يقوم على تأملات متتعددة و متشابكة و تختلف و تتقاطع, فهذا شأن الفلسفة قائم على التأمل و النظر فى الأشياء و التفكر فيها بلا حدود أو قيود علمية تحجم مسألة التفكر و التأمل و تكاد تخلو من فكرة منهجية للبحث و التحليل الموضوعى و أنها اعتمدت فى تكوينها و نشأتها على الانطباعات و القليل من الملاحظة و التجريب و لكن كانت هى بداية الطريق الممهد لظهور العلم بمفهومه المعاصر و قد تجلى ذلك فى عصور النهضة الاوربية الصناعية و العلمية فبدأت شيئا فشيئا تتخلى عن الفلسفة التأملية القائمة على النظر فى الماورائيات و طرح الأسئلة و الوقوف عندها لتنتقل إلى الملاحظة و التجريب و تسجيل المشاهدات و إخضاع الظاهرة للتجربة و المشاهدة و بدأت الفلسفة على هذا النحو تنفصل تدريجيا عن العلم حتى حدثت القطيعة بينهما و تلاشى إلى الأبد الجسر الواصل بينهما فكان العالم قديما فيلسوفا و يتأمل العلوم الطبيعية من منظور فلسفى بحت قائم على المسائل المنطقية و التفكر و الفروض و الاحتمالات و رهن بتساؤلات بدون إجابات شافية و حاسمة و لذلك أثير الجدل هل تعتبر الفلسفة فرع من فروع العلوم الطبيعية أو التطبيقية أم تم حصرها فى نطاق الأدبيات التى تبتعد كلية عن قواعد البحث العلمى المتعارف عليها و من أنصار هذا الاتجاه ( أوجست كونت ، غوبلو)) أنه لم يعد للمعرفة الفلسفية دور في الحياة الإنسانية بعد ظهور وتطور العلم في العصر الحديث لأنها بحث عبثي لا يصل إلى نتائج نهائية ، تتعدد فيه الإجابات المتناقضة ، بل نظرتها الميتافيزيقية تبعدها عن الدقة الموضوعية التي يتصف بها الخطاب العلمي هذا الذي جعل أوجست كنت يعتبرها حالة من الحالات الثلاث التي حان للفكر البشري أن يتخلص منها حتى يترك للمرحلة الوضعية وهي المرحلة العلمية ذاتها . وهذا الذي دفع غوبلو يقول : " المعرفة ما لم تكن علمية فهى جهل" . لكن هناك رأى يخالف هذا القول حيث يقول (ديكارت ، برغسون ، مارتن هيدجر ، كارل ياسبرس ) أن العلم لا يمكنه أن يحل محل الفلسفة فهي ضرورية لأن الفلسفة تجيب عن تساؤلات لا يجيب عنها العلم . فكارل ياسبرس ينفي أن تصبح الفلسفة علما لأنه يعتبر العلم يهتم بالدراسات المتخصصة لأجزاء محددة من الوجود مثل المادة الحية والمادة الجامدة ... إلخ . بينما الفلسفة تهتم بمسألة الوجود ككل.
و هناك من يدعو إلى ضرورة الأخذ بالفلسفة و العلم فى ذات الوقت لأن الإنسان يحتاج إلى كليهما ليبحث عن إجابات لموجودات كثيرة تحيط به لا يستطيع كل منهما أن يجب عنها مفردا و لكن الذى يدعونا للتساؤل اليوم هل تراجع دور الفلسفة فى العالم العربى لحساب علوم أخرى و أرى أن الإجابة تأتى براقة فأن الفلسفة من وجهة نظرى قد تراجع دورها لصالح العلوم الطبيعية و التطبيقية و أضمحلت أكثر بسبب التطور التكنولوجى المذهل و أكثر هذه الأسباب تأثيرا هى الصحوة الإسلامية التى قلصت كثيرا من دور استخدام الفكر الفلسفى فى نظر القضايا الإسلامية و هذا أدى بدوره إلى اتهام التيار السلفى للتيار الصوفى بأنه تيار الشطحات التى تخرجه عن الإسلام فى بعض المسائل العقائدية و قد أدى أقحام الفكر الفلسفى الصوفى لإنتاج العديد من آليات التفسير أهمها منهج التأويل الباطنى لظاهر الآيات و الاحاديث و يدافع أنصار التصوف الفلسفى عن منهجهم بأنه يشجع على إعمال العقل و التأمل فى القضايا الألهية و يتجاوز النص الظاهر الى جوهر النص الذى لا يمكن أن يجلى أعماقه سوى التفكير الفلسفى و المنطقى القائم على التأمل و الذى أخذ مصطلح آخر لدى المتصوفة و هو التجليات و الفكر الفلسفى الصوفى الإسلامى فيه أوجه شبه بينه و بين كل الفرق فى مختلف الديانات التى تتبنى الفكر الصوفى الفلسفى فنجد له صدى فى الدين المسيحى يتمثل من خلال علم اللاهوت و أيضا لدى المتصوفة اليهود و المتصوفة البوذين و غيرهم من اتباع الديانات الوضعية و لا يلقى مثل هذا الهجوم فى الديانات السماوية المتمثلتين فى الديانة المسيحية و اليهودية بقدر ما يلاقيه فى الديانة الإسلامية و يلقى ترحيب كامل فى الديانة البوذية التى تقوم على منهج التأملات و النظر الى الماورائيات فهى أساس الفكر العقائدى لدى اتباع هذه الديانة.
هذا المقال ليس لفض إشكالية الفلسفة و لكنه يقوم بإعادة طرح لنفس الإشكالية القديمة و الحقيقة أننى لا ابدى تعاطف مع رواد أى مدرسة فلسفية لأنى أعتبرها من الأدبيات التى لا تعطى بقدر ما تستهلك الطاقة العقلية لدى الإنسان فيما لا ينفع و لأنها أيضا تختلق إشكاليات من خلال طرح تساؤلات تبحث فى الكليات و لا تقدم حلول فى نهاية المطاف و تعطى القدر القليل من الإجابات التى فى مجملها مبهم و يفتح الباب أمام المزيد من التساؤلات و من ثم الدوران فى حلقة مفرغة من الإجهاد العقلى الغير مثمر, أعرف أن رأى هذا سيغضب الكثير من المشتغلين بالفلسفة و لكنه رأى من ضمن الأراء المطروحة على الساحة قد يلقى قبول لدى البعض و شجب و تنديد من قبل البعض الآخر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق