لا تكاد الساعة تلفظ أنفاسها الأخيرة لتعلن انتهاء الساعة التاسعة صباحا من كل يوم وبداية العاشرة حتى يكون أبو محمد قد حط رحاله أمام بيته، بعد ساعات نوم طوال يبدأها بشكل روتيني غير عادي بعد غروب شمس كل يوم.
أمام منزله , ذي البوابة الكبيرة مكان صغير لا يكاد يتسع لكرسيه المتحرك , يجلس أبو محمد كل يوم في هذا المكان ؛ يراقب بنظرات يملأها الأسى و الأمل كل من يمر من أمام منزله - رجال ونساء وأطفال وحافلات وسيارات ... . الأسى والأمل – اللذان لا يكادان يجتمعان – يظهران في عيني أبو محمد بشكل جلي ؛ ويستطيع كل من يمر من أمام منزله أن يرى عدم الارتياح الناتج عن الاندماج اللامنطقي لهما باديا على ملامح وجهه. لقد تعوّد المارة رؤية هذا المنظر؛ فأبو محمد يبدو لكثير من الناس وكأنه أحد أهرامات مصر؛ فهو باعتقاد الكثيرين يجلس في هذا المكان أمام منزله دون أن يراوحه منذ قرون طويلة ! يرّد السلام بصوت خافت على كل من يطرحه عليه من الأشخاص الذين يمرون من أمام منزله ويتابعهم بنظراته حتى تتلاشى صورهم في عينيه ؛ يراقب الناس بنظرات غريبة لا تشبهها إلا نظرات من يراقب إقلاع طائرة تحمل على متنها جميع أصدقائه وأحباءه , أو نظرات من يحاول أن يعرف عدد الأشخاص الذين يمرون من أمامه , وكأن أحدهم طلب منه أن يحصيهم؛ أو نظرات من يبحث عن شخص ما أو ينتظر وصوله.
تتجاوز حياة أبو محمد حياة موظفي الدولة في درجة الروتينية التي تتسم بها؛ فمنذ أن تقاعد من وظيفته – التي لم تكن أقل روتينية من حياته الآن – قبل سنوات وهو يحافظ على موعده مع بوابة المنزل كل صباح وكأنه أدمن على ذلك.
وبالرغم من الغرابة التي تتسم حياة أبو محمد في معظم جوانبها ، إلا أن هناك شيئا في حياته يبدو أنه الأكثر غرابة. فبالرغم من أن موعده مع بوابة المنزل والكرسي المتحرك يكون مع انطلاق العاشرة صباحا إلا أنه يستيقظ من نومه في كل يوم مع دقات السابعة صباحا. لقد تعودت ابنته الوحيدة والتي تعتني به أن تقوم قبل هذا الوقت في كل يوم لتعد له طعام الإفطار وتشّغل له المذياع قبل أن تغادر إلى عملها. ليس هناك عمل يقوم به أبو محمد قبل الذهاب إلى موعده سوى الاستماع إلى المذياع ومراقبة الشمس وهي ترتفع رويدا رويدا في السماء من خلال نافذة غرفته.
في الحقيقة لا يبدو أبو محمد منتميا إلى المجتمع المحيط به, أو مهتما لما يدور في العالم من حوله بتلك الدرجة التي تجعله يتابع المذياع يوميا وبتلك الطريقة الروتينية العجيبة. علاوة على ذلك, فإن ملامح وجه أبو محمد لا تدل عل أي علاقة له بالرومانسية التي يمكن أن تجعل أحدا ما يهتم بمراقبة طلوع وغروب الشمس في كل يوم. إن أذني أبو محمد "المرهفتين" لا تستطيعان احتمال الاستماع إلى دندنة المذياع – فهي بالكاد تستطيع استقبال السلام بصوت معتدل من الناس المارين من أمام بيته. لن يستطيع عكازا أبو محمد المصنوعان من خشب الزان القوي واللذان يسندان قوامه حين يحاول الوقوف على قدميه- لن يستطيعا احتمال كل هذه الأشياء .
يبدو أن جميع الأصوات التي يصدرها المذياع تلامس بالكاد أذني أبو محمد دون أن يكون لها أي وقع عليهما. مع ذلك فإن هناك برنامجا واحدا فقط يحظى باهتمام أبو محمد وكأنه يعيد الشباب إلى أذنيه ؛ يبدو أن البرنامج يذيع صوتا مقدسا إلى تلك الدرجة التي تجعل أبو محمد ينصت بخشوع الموتى إلى كل حرف ينطلق من المذياع وكأن الكون يتوقف عن الحركة ولا يبقى إلا صوت المذياع. لا أحد يعرف سر هذا السلوك الذي يجعل من أبو محمد يبدو وكأنه ينتظر سماع خبر قيام الساعة في كل يوم عبر هذا المذياع. تظن ابنته انه يستمع إلى المذياع من باب أشغال وقت الفراغ بأي شيء ، فهي لا تحب أن تسأله ، خاصة وأنها شعرت بأنه لا يحب الحديث عن هذا الموضوع , حيث أن إجابته كانت توحي بأنه لا يرغب في الاستمرار في الحديث حين سألته يوما ما عن سر اهتمامه بالمذياع. على كل حال, الأمر ليس بتلك الأهمية بالنسبة لها. لقد كان البرنامج الذي أدمن أبو محمد على الاستماع إليه دون كلل أو ملل يذيع أسماء الوفيات وأعمارهم في كل يوم. لا أحد يعرف سر الاهتمام بهذا البرنامج الذي لا يحبذ الكثيرون الاستماع له. مع ذلك واصل أبو محمد متابعة هذا البرنامج سنوات طوال دون أن تفوته حلقة واحدة. استمرت حياة أبو محمد بهذه الطريقة وكأنه يطبق تعليمات مدونة في كتاب مقدس أنزل عليه وحده من السماء وطلب منه إتباعه بدقة متناهية.
وفي صبيحة ذات يوم , وعلى غير ما جرت عليه العادة ودون سابق إنذار, دقت عقارب الساعة متجاوزة السابعة صباحا , ورغم أن عقاربها كانت تتلكأ وكأنها تريد أن تتيح الفرصة لأبي محمد لكي يلحق بموعده , إلا أن الكرسي المتحرك لا يزال بجانب سرير أبو محمد لم يتحرك , وأبو محمد لا يزال يغط في نوم عميق دون حراك. لقد تجاوزت الساعة القديمة المعلقة على أحد الجدران السابعة والنصف ولكن الطعام الذي أعدته ابنته قبل أن تذهب إلى عملها لا يزال مغطى قرب سريره.... ارتفعت الشمس فوق الأفق رغم أن كرسي أبو محمد المتحرك لم يظهر بعد أمام منزله لأول مرة منذ سنوات ... هل ممكن أن يكون أبو محمد قد ذهب إلى فراشه متأخرا ليلة ألامس؟ ... ربما... ولكن هل يعقل أن تسأم الحياة الروتينية أبا محمد بعد كل هذه الصداقة ؟! لا يمكن أن يكون ذلك . لا بد أن الزائر الذي كان ينتظره أبو محمد بحماس مليء باليأس والأمل قد وصل أخيرا. ولكن أبا محمد لن يستطيع سماع هذا الخبر عبر المذياع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق