سجل إعجابك بصفحتنا على الفيس بوك لتصلك جميع مقالاتنا

بحث فى الموضوعات

الاثنين، 21 أكتوبر 2013

قصة قصيرة :الصرصار بقلم / سليم عوض عيشان

تنويه ..النص بريء من كل بعد سياسي .. يمس حرية الفكر والرأي ... وخاصة في عالمنا العربي ... فالحكام العرب أسمى وأرقى من أن يصادروا الحريات الفكرية ؟؟؟!!!
اللهم إلا إذا كان للقارئ وجهة نظر أخرى مختلفة ؟؟؟!!!
( الكاتب )---------------------------

بالطبع فإنه ضد المنطق أن يكون لدى الصراصير ملكة التفكير .. فلم يحدث أن شاهد أحداً ما صرصاراً يفكر ، حتى في روايات الخيال العلمي لم يحدث مثل ذلك الأمر .
ولكني شاهدت ذلك بأم عيني .. وسمعته بأذني .. نعم لقد رأيت صرصاراً يفكر ؟! لا .. لم يكن ذلك خلال حلم راودني ذات ليلة ، ولم يكن حلماً من أحلام اليقظة أيضاً ، لقد كان صرصاراً حقيقياً ؟! .
لم يحدث الأمر ليلة الأمس .. ولا ليلة أول أمس ، لقد حدث قبل عدة ليال مضت ، ولم أستطع أن أقول ذلك في حينه لأنني كنت أحسب بأن ما حدث لم يكن سوى ضرب من ضروب الأوهام أو الأحلام ، لكن الأمر تكرر لأكثر من ليلة خلت .. وما زال .
في تلك الليلة الشتوية الباردة ، داهمني صرصار أعجف وأنا ما زلت أجلس إلى مكتبي المنزلي المتواضع أكتب شيئاً ما .. لعله قصة أو لعلها رواية لا أدري ، فكل ما أدريه بأنني كنت منكباً على الكتابة بكل حواسي ، فداهمني ذلك الصرصار بإلحاح غريب .. لست أدري كيف استطاع أن يتسلق المنضدة ليصل أعلاها .. ثم ليزحف سريعاً نحو الوريقات التي كنت منكباً على سكب الحروف والكلمات عليها .
اقترب قليلاً من موضع القلم الملامس للورقة ، توقف وكأنه يسترعي انتباهي ! بحركة لا إرادية أزحته بأن طوحت الورقة في الهواء عدة مرات بقوة وعصبية ، كانت تلك الحركات كفيلة بإبعاده بما فيه الكفاية .
عدت لأوراقي وأقلامي بعد أن قطع الصرصار حبل التفكير وسيل الكتابة ، عدت لاسترجاع الأفكار ورأبها من جديد ، فلما تم لي ذلك أو كاد ، أمسكت بالقلم لأستأنف الكتابة ، فكان الصرصار إلى الورقة أسرع ! حاولت أن أزيحه مرة أخرى بالطريقة السابقة ، فتمسك بالموضع جيداً ، ويبدو أنه قد أدرك أصول اللعبة ، هويت بقبضة يدي بعصبية وقوة كي أقضي عليه ، فتحرك من مكانه قليلاً وكان ذلك كافياً لكي أطلق صرخة مدوية من شدة الألم لارتطام يدي بقوة في المنضدة .
نظرت ناحية الصرصار بغيظ وحمق ، فهيئ لي بأنه يؤدي حركات راقصة شامتة .. وهيئ لي بأنه يخرج لسانه هزءاً وسخرية مني ؟! .. حاولت إبعاده بشتى الوسائل والطرق دون جدوى .. وأخيراً .. لم أجد بداً من وضع القلم جانباً والعودة إلى تأمل الصرصار العنيد .
" هل استسلمت ؟! "
كان السؤال مباغتاً ومفاجئاً .. وبمخارج حروف هادئة خافتة .. حسبت أنها صادرة عن نفسي وداخلي .. ولكني عجبت لخروج حديث الذات إلى حيز الوجود .. وشدهت من ترجمة الأفكار إلى لغة واقع ؟! ابتسمت لغرابة الأمر ، واعتقدت جازماً بأنني بصدد الركون إلى النوم ، وكل شيء في تلك اللحظة التي تفصل اليقظة عن النوم جائز .
تناولت سيجارة أشعلتها بتؤدة ووضعتها في فمي محاولاً طرد النعاس والأفكار المتمردة .
" لماذا لم تجب ؟؟ .. هل استسلمت ؟؟!! "
تلفت حولي أبحث عن مصدر الصوت ، فالحديث لا يصدر عن ذاتي بالتأكيد ، ولست نائماً كذلك .. ولا أحس بارتفاع في درجة الحرارة ؟! ، فلم أجد أحداً .. ألقيت السيجارة جانباً وهي مشتعلة ولم ألحظ بأنها
قد بدأت في إشعال حواف الأوراق .
" أنا هنا .. أنا الذي أتحدث إليك ؟! "
رغم إيماني العميق ، ورغم ثقافتي المتواضعة بأن الأصوات لا يمكن أن تصدر إلا عن بني البشر .. إلا أنني كنت أعتقد بأن بعض الجن أو الشياطين تخاطبني .
" ألم تعرفني بعد ؟؟ أنظر نحوي هنا " .
كاد أن يصيبني مس من الجنون .. فلا أحد سواي في المكان ، رحت أفرك عيني بقوة وأحملق حولي أبحث ببصري هنا وهناك .. لم أجد سواي في المكان .
" إنني هنا .. هنا .. ألا تراني ؟؟ إنني الصرصار !! "
انتابني شك عظيم فيما سمعت أذنيّ .. نظرت ناحية الصرصار المتحفز في وقفته ..
رحت أتأمله بدهشة وعجب .. تمتمت بصوت منخفض : وهل تتكلم الصراصير ؟؟!! .
" نعم تتكلم ؟؟!! "
لاحظت بأن هناك حركات معينة تصدر من فم الصرصار وجسده مصاحبة للحديث الذي تناهي إلى مسامعي .. لم أصدق الأمر .. لم أستوعبه .. اضطربت .. ارتسمت علامات الدهشة على وجهي وحركاتي .
" لا داعي للدهشة والاضطراب .. "
نهضت من مكاني أنوي الفرار مرتعشاً ..
" لا تهرب .. لا تخف .. فمنذ متى يخاف بنو البشر من الصراصير ؟! .. فأنا لن أؤذيك .. لن أؤذيك مطلقاً .. وماذا باستطاعة صرصار مثلي أن يفعله مع رجل بمثل ضخامتك ؟! .. اجلس .. أرجوك " .
كدت أن أفقد صوابي .. هممت أن أصرخ بجنون .. تمتمت بوجل ورعشة :
- منذ متى تتكلم الصراصير ؟؟!!
" إنني لست صرصاراً كما تظن .. بل ..
قاطعته بخوف ووجل :- جنيّ ؟!
" لا .. لست بجنيّ يا هذا "
تمتمت برهبة :- شيطان إذن ؟!
" ولا هذا أيضاً .. أنا لست بشيطان ولا جنيّ .. بل أنا .. إنسان " .

يا للجنون !! يا للحماقة !! كيف يدعي هذا الصرصار بـأنه إنسان ؟! .
" لا تعجب من الأمر هكذا .. ما أقصده بالضبط بأنني كنت إنسان في يوم ما ..
إياك أن تظن بأن هذا كان قبل التاريخ .. الأمر حدث قبل فترة وجيزة .. وجيزة جداً " .
تجرأت قليلاً في السؤال :- ولكن .. كيف أصبحت صرصاراً ؟! .
" أوه .. هذه هي القضية يا سيدي .. وحسناً بأنك بدأت تهدأ .. وتتحدث وتسأل ..
لتعلم يا سيدي بأنني كنت إنسان مثلك تماماً !!.. مفكر .. كاتب وأديب .. متحذلق مثلك أيضاً " .
قاطعته بحدة وانفعال :
- حسناً .. حسناً .. ولكن كيف أصبحت " صرصار " ؟!
" سأختصر الأمر يا سيدي ، سأعلمك بأنني كنت أكثر منك جرأة في الكتابة ،
فاتهموني بالزندقة .. كنت أكثر منك صراحة ، فاتهموني بالوقاحة .. كنت أشد منك تمكناً ونقداً فاتهموني بالكفر .. كنت أشد منك إيماناً بالكلمة وأكثر التزاماً بالهدف ، فاتهموني بالعصيان والتمرد ؟! .
- ثم ماذا ؟؟ .. أخبرني بسرعة ( قاطعته بحدة ) .
" لا تتعجل الأمور هكذا .. فسوف أخبرك بل شيء .. كل ما في الأمر بأنني سجنت .. لأنني متهم بتلك التهم ، تهمة الكتابة .. تهمة حمل القلم والفكر ، لقد نلت كل ما تتصوره وما لا تتصوره من أنواع العقاب القاتل وصنوف الهوان والتعذيب المر الأليم ، كنت أموت في اليوم ألف مرة وأحياناً مليون ، لقد حسدت الصراصير في زنزانتي ، تمنيت أن أكون إحداها ، لأنها حرة في الخروج من المكان الموحش ، بينما أنا مقيد بالسلاسل والأغلال .. حسدت الصراصير لحريتها وتمنيت أن أكون حراً مثلها ، حتى ولو أصبحت صرصار ".
" وقد كان .. فجأة صرت صرصار مثلها .. وخرجت من المكان .. وها أنا أتمتع بحريتي بدون قيود أو سلاسل .. هل عرفت ؟؟!! .. هل فهمت ؟؟!! " .
انسحب الصرصار من المكان يقهقه بصوت مدوٍ لا يتناسب مع حجمه بأي حال من الأحوال .. يتردد صداه في أرجاء نفسي بقوة ورهبة .. وأفقت من شرودي على رائحة الدخان المتصاعد من أوراقي .
نسيت الصرصار وأمره في الصباح ، وأرجعت بأن ما حدث في المساء لم يكن سوى أضغاث أحلام ، أو لعلها أحلام اليقظة .
ولكن زائري الليلي تابع زياراته في الليالي التالية ، يحادثني حديث العقلاء والمفكرين
من بني البشر ، ويبدو فعلاً بأنه قد كانت لدية حصيلة ممتازة من الفكر وسعة الاطلاع ، يناقشني ويبدي أراءه في شتى الأمور والمواقف ، يصوب كلمات أكتبها ، ويبدي وجهة نظر صائب في موقف يحتاج إلى تعديل .. إلى أن كانت تلك الليلة .
طرقات صاخبة مدوية متتابعة على الباب الخارجي لمنزلي .. يصاحبها صراخ مدوٍ بلكنة غريبة على مسامعي ، أصخت السمع جيداً .. نظرت ناحية صديقي الصرصار ، فوجدته مضطرباً مرتعشاً لأول مرة منذ تعارفنا ، سمعته يتمتم بما يشبه الهمس بوجل وارتعاش :
" إنها نفس الصرخات ونفس الطرقات التي كانت على باب منزلي ذات ليله ؟! "
وانسحب من المكان مذعوراً !! .
وجدتني أجلس وحيداً مضطرباً واجف القلب .. ما هي سوى لحظات حتى كانوا يقتحمون المنزل بعد أن حطموا الأبواب وتسلقوا الجدران ، اقتحموا حجرتي وانقضوا عليّ انقضاض الوحوش على الفريسة ، أمسك أحدهم بأقلامي وراح يحطمها بغيظ وحنق ، مال آخر ناحية أوراقي وراح يمزقها بعصبية وعنف ، هوت أيديهم على وجهي بالصفعات وتسابقت أقدامهم إلى جسدي بالركلات ، تهاويت على الأرض ممسكاً بالقلم الوحيد الذي نجا من سطوتهم ، تنبه أحدهم لما في يدي فجن جنونه وانقض عليّ محاولاً تخليص القلم من بين أصابعي المطبقة عليه بقوة ، حطم الأصابع قبل أن يتمكن من تحطيم القلم ، تعاونوا جميعاً على سحب جسدي إلى الخارج وقد تناثرت الأوراق الممزقة والأقلام المحطمة من حولي وقد ازدانت باللون الأحمر،
لم ينس أحدهم أن يتولى مهمة ركلي بقدمه الضخمة بقوة وغطرسة مع كل خطوة يخطوها .
وألقوا بي في الزنزانة الرهيبة ، لم يوجهوا لي تهمة ما .. فيكفي دليلاً للإدانة تلك الأوراق والأقلام التي كانت بحوزتي !! .
لم أعد أعلم للأيام أو الليالي عدداً .. فكل الأوقات عندي ليل مظلم ، فالزنزانة معتمة بشكل رهيب ، زاد في الظلمة تلك الستارة من التهدل والتورم التي انسدلت علي عينيّ إثر اللكمات والركلات ،
تناوب الحراس مهمة تعذيبي الوحشي وضربي بقوة ورهبة على شتى أنحاء جسدي .. وتصفيدي بالأغلال والسلاسل الرهيبة .
شعرت بالموت البطيء يتسلل إلى جسدي المنهك ونفسي المحطمة .. حاولت أن أقاوم أكثر ، أن أصرخ أكثر فلم يعد باستطاعتي فعل هذا أو ذاك .. تمنيت الخروج من ذلك المكان اللعين بأي شكل من الأشكال لكي أرى النور .. الشمس .. الهواء .. الحرية .. الحياة .. فكانت مجرد أماني وأحلام يقظة .
ليالٍ وليال .. معاناة رهيبة .. تعودت عيناي على الظلمة .. بعد أن ارتفعت ستائر التورم إلى أعلى قليلاً … مما سمح لي بشيء من الرؤيا والمشاهدة .. حروف وكلمات على الجدران بخطوط ورسومات مختلفة ، عبارات متباينة ، أسماء متعددة نقشت على الجدران كلها من دم ، حاولت أن أفعل شيئاً مثل ذلك .. لم أكن بحاجة إلى الدماء للكتابة .. فهي تنساب من شتى جروحي .. تناولت شيئاً منها .. كتبت كلمات وكلمات .. سعدت جداً لأنني شعرت بأنني لم أنس الكتابة بعد .. سعدت أكثر لأنني لا زلت أملك فكراً ، أحمل رأياً .
عاد السجان الرهيب ليمارس هوايته السادية بتعذيبي ، عز عليه أن يجد شبح ابتسامة على وجهي ، شاهد الكتابة على الجدران بدماء ساخنة ، جن جنونه ، راح يشطب عبارات الدماء بدماء أخرى جعلها تنساب من فمي ووجهي وجسدي بغزارة ، حاول أن يسكب كل المداد الأحمر الموجود في جسدي بعد أن اهتديت إلى تلك الطريقة الجديدة في الكتابة ، راح يدق رأسي بعجرفة إلى الحائط ليحطم جمجمتي ويخرج ما بها ، لأنه أحس بأنني ما زلت أملك عقلاً وفكراً ، زاول مهنته على مدار الوقت بلا كلل أو ملل .. تركني ليستريح بعد أن أحس بالإعياء والتعب للجهد الشاق الذي بذله !! على أن يعاود اللعبة بعد قليل ، فلعل الغثيان قد أصابه أيضاً لرائحة الرطوبة ومنظر الدماء .
من جديد ، بصيص من الرؤيا يسمح بمشاهدة الأشياء بصعوبة .. عشرات الصراصير اندفعت إلى المكان من زوايا مختلفة ، توقفت قليلاً ثم غادرت مهرولة إلى الخارج من خلال الشق الصغير الموجود أسفل باب الزنزانة ، حسدت الصراصير على ما تتمتع به من حرية ، فباستطاعتها الخروج من المكان الكريه لتنعم بالحرية في الخارج ، حسدتها وتمنيت أن أكون متمتعاً بالحرية مثلها .. ولكن كيف لي بالخروج مثلها ؟؟.
تمنيت في قرارة نفسي أن أكون في الخارج حتى ولو أصبحت صرصار ، تمكنت الفكرة مني فرددتها عدة مرات بصوت أشبه ما يكون بالهمس .. وقد كان ..
بدأ جسدي يتضاءل تدريجياً ، بدأت أطرافي وأعضائي في التغير والانكماش ، هالني الأمر كثيراً ، استمر الأمر لبعض الوقت ، وجدتني وقد أصبحت صغيراً ، منكمشاً جداً ، تغيرت معالمي كثيراً ، صرت أشبه الصرصار .
في اللحظة التالية لم أجد صعوبة في مغادرة المكان ، عندما كنت أتسلل بخفة إلى الخارج من خلال الشق الصغير الموجود أسفل باب الزنزانة !!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق