سجل إعجابك بصفحتنا على الفيس بوك لتصلك جميع مقالاتنا

بحث فى الموضوعات

الاثنين، 26 أغسطس 2013

القصة القصيرة: الصباحيات المتبقية بقلم/ مروان محمد

(1)

و لأنه صباح غير أى صباح عهده, و لأن الشعور الغريب راوده اليوم فأدرك أن حديث عمه السخيف عن الشعور المبكر بالموت أصبح يخنق الهواء الداخل إلى صدره, جلس على سريره فى تلك الحجرة المشتركة بفندق النوبة الجديد الكائن بمحطة مصر و التقط سيجارته الأخيرة من علبة الكليوباترا الحمراء و أشعلها بالثقاب قبل الأخير و أهتز جسده بضحك مكتوم.

- أيام نحس لا تنتهى.

مال نحو الكومدينو يتطلع إلى الوقت فى ساعة يده فوجدها الخامسة صباحا فاعتدل فى فراشه و هو يسحب الكوفرتاية التى تكومت فى نهاية السرير حتى فخذيه و غرق فى تفكير غير مبرر, بالتأكيد لاحظ بعد دقيقتان أن السيجارة توشك على الأنتهاء لذا أطفاءها فى سطح الكومدينو و حبس النفس الأخير قبل أن يفلته ليتكور بلونه الأبيض فى هواء الغرفة شبه المعتم.

ابتسم لصوت طرقعة أصابع قدميه و أرخى ظهره إلى ظهر السرير مغلقا جفنيه المرهقتين و عقله قد شرد فى وجوه كثيرة تعترضها دائما صورة سلمى.

(2)

جلس بجانب الشيش المغلق يتطلع من فتحاته الضيقة على ميدان محطة مصر و يدخن سجائر العلبة الجديدة الواحدة تلو الأخرى و قد نبه على الرجل العجوز الجالس فى مدخل الفندق الضيق أن يخبر جميع من يسأل عنه بأنه غير موجود فعرف منه على فترات متفرقة أن شكرى قد زاره و شقيق سلمى قد أتاه.

لم يبدى أى أنفعال اتجاه زيارة أيا منهما و لكنه ظل يتابع من خلف الشيش المشهد العام لميدان محطة مصر, و رأسه المرهقة لا تفكر فى شىء محدد ألا أنها مملوءة بذكريات متناثرة و أفكارا غير منسقة أو جدية تتشابك كلها فى حزمة واحدة تملاء خلايا مخه فتسبب له صداع متعب فى خلفية رأسه حتى أن حدقتيه تضيقان عندما يشتد عليه الألم, على الرغم من تواضع أثاث الغرفة الطويلة ألا أنها نظيفة, دخل عليه فتى فى الخامسة عشر من عمره يمسك بعود بخور قائلا:

- عود بخور يا أستاذ.

هز عاطف رأسه و تابع الفتى فى حركته و هو يثبت عود البخور فى فرجة بين حلق الباب و الحائط ثم أشعله بعود كبريت, التفت إلى عاطف مضيفا:

- رائحته ذكية.

لم تتغير ملامح عاطف الجامدة فأنصرف الفتى و هو يحدث نفسه بصوت غير مسموع, لا يعرف عاطف إذا كان يسبه أم لا؟

(3)

استقبل الشارع الضيق و سيجارة يدسها بين شفتيه, لم يسأل نفسه إلى أين تكون وجهته, فقط أحتاج إلى أن يتمشى قليلا, اليوم تجاهل كم لا بأس به من الزوار و التليفونات و لم يهتمبتغيبه عن العمل لليوم الثانى على التوالى و شعر بسعادة لأنه تجاهل نوبتجيته الليلية لأول مرة مع عم حسنى لذا رفع عينيه عندما خرج من الزقاق إلى نافذة معينة بالطابق الثالث عشر, ضوء النيون يرتعش كما هو رغم الاستارتر الجديد!

يعلم أن عم حسنى يجلس الأن وحيدا يشتمه لأنه تركه وحيدا هذه الليلة و هو الذى لم يعتاد الوحدة و اتجه فى خطوات متكاسلة إلى كشرى مدهش و طلب طبق كشرى دوبل بالكبدة.

أفرغ طبق الشطة فوق طبق الكشرى و بدأ يأكل بسرعة كأنه فى عجلة من أمره, حاسب الواقف دون أن يدع له مجال لأخذ أى بقشيش ثم مضى متجها إلى فندق النوبة... توقف عن السير و هو يراقب عمه ينزل من ميكروباص (الموقف – محطة مصر) فى صعوبة و يمشى ببطء متكئا على عصاه ... توقف ليسأل أحد الباعة المتواجدين داخل موقف الميكروباصات ثم أكمل سيره المتعثر, مر عمه من أمامه دون أن يلحظه معتليا الرصيف المقابل له, فكر عاطف أن يستوقفه و لكنه تراجع و هو يشاهده يقطع بصعوبة شريط الترام و كلما حدثته نفسه أن يلحق به يتردد و يظل يتابعه حتى التحم جسد عمه بالأجسام المتزاحمة على رصيف الترام فغاب عن نظره فى حين تحرك هو نحو مينى ميكروباص ليركب فى المقعد الأمامى بجوار السائق متجها إلى فيكتوريا.

(4)

نزل فى فيكتوريا مستقلا ميكروباصا آخر يتجه إلى أبو قير, هى المرة الأولى التى يسلك فيها هذا الاتجاه بعد خمسة و عشرين سنة, طريق الأمس البعيد يختلف عن طريق اليوم تماما, و يتذكر أن جدته التى لم يزورها منذ أن دفنت كانت تصحبه فى رحلتها هذه, كان وجهها حزينا جدا فى هذا اليوم, يذكر أيضا أنها أول كل شهر كانت تذهب إلى مكان بعيد, لما كبر بعض الشىء رفض أن يصحبها فى مشوارها هذا, و لما كبرت هى و لم تعد تقوى على الذهاب بمفردها رفض مرارا أن يصحبها إلى هناك رغم بكائها و استجدائها المستمر فكان لا يلين لطلبها أبدا, لا يعلم لماذا الأن بعد خمسة و عشرين عاما يذهب إلى نفس المكان الذى يكرهه جدا و يكره ذلك الشخص الذى يزورنه فيه, هل هو مرتبط بهواجس الشعور الذى يصاحبه الأن؟

- سوف أنزل هنا يا أسطى.

لم يسمعه السائق أول مرة فكرر بصوت أعلى حتى هتف السائق:

- من ينادى؟

فصاح به راكبان آخران:

- قف يا أسطى.

توقف الميكروباص إلى جانب الرصيف و نزل عاطف متجها إلى متسشفى النبوى أسماعيل ليزور ذلك الشخص الذى يمقت زيارته جدا, اليوم يشتاق إليه ربما لأنه يذكره بوجهها الطيب فهو يحمل نفس ملامحها تقريبا.

(5)

فاجئه أن يجد عمه و هو يتكأ بيديه على رأس عصاه و يسند ذقنه على يديه و يجلس بجوار رجل الاستقبال المسن أسفل البناية فى مدخل الفندق الضيق جدا, رفع عمه رأسه متطلعا إلى الداخل فلما رأى عاطف وقف و ابتسامة واسعة ترتسم على شفتيه قائلا فى لهجة حانية معاتبة:

- أين أنت يا رجل؟

سلم عليه عاطف و بعض من تأنيب الضمير يداخله و فى ذات الوقت مستغربا من رد فعل عمه الذى بدى له غريبا لأنه لم يكن مكسوا بأى رنة غضب:

- كنت فى مشوار.

ربت عمه على ظهره فوجد عاطف نفسه يندفع قائلا رغما عنه و قد أحس أنه لا يستطيع أن يحبس سره بصدره أكثر من ذلك, كان يريد أن يلقيه بين يدي شخصا آخر ليحمله معه, صدره المختنق بدخان سجائره لم يعد يحتمل حمل الأسرار كلها فكان لزاما عليه أن يطرح بعضا منها عنه.

- حاولت أن أزوره و لكنهم رفضوا لأنى أتيت بعد مواعيد الزيارة الرسمية.

لم يفهم عمه ما يرمى إليه حتى قال عاطف:

- أقصد خالى رأفت, هل تعرفه؟

ربت عمه مرة أخرى على ظهره فالتفت عاطف لرجل الاستقبال قائلا:

- عمى سيبيت معى الليلة يا عم جمعة.

قال جمعة بصوت متحشرج:

- ماذا بك يا أستاذ عاطف و هل قلت شيئا؟

اصطحب عاطف عمه إلى الدور الثالث و هو يمسك مرفقه, تكلما بصوت عالى فى ذلك الوقت المتأخر من الليل, يضحكان على ما يتبادلاه من حديث, عم جمعة يسمع حديثهما الضاحك و يضحك فى صمت على ضحكهما المجلجل حتى سعل فى الوقت الذى غاب فيه صوتهما عنه.

27-7-2004

الإسكندرية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق