سجل إعجابك بصفحتنا على الفيس بوك لتصلك جميع مقالاتنا

بحث فى الموضوعات

الثلاثاء، 13 أغسطس 2013

مقالات دينية: شهادة الفطرة الإنسانيّة بقلم الشيخ/ محمد الزعبى

 " من لبنان"

أركان الإسلام بين الكهانة والديانة- الحلقة الرابعة


وكذلك فهذه الشهادة ليست مشروعاً غريباً عن الإنسان يضاف إلى كينونته، بل هي من صميم فطرته (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) [الأعراف172] إنَّ خِلْقَةَ الإنسان وتركيبه العقليّ والنفسيّ الشعوريّ وحتى الفيزيولوجيّ مصمَّمٌ بما يتلاءم مع تحقيقه لمشروع الشهادتين، فالعقل لو عمل وَفْقَ قوانينه العقليّة البحتة بعيداً عن تأثير الهوى والموروثات، لا بدّ أن يتوصّل إلى صحّة حقيقة الشهادة، وأحقّيّة مشروعها كمشروع وحيد صالح ليأخذ بيد الإنسان نحو سموِّه وكماله وسعادته الآنيّة والأبديّة. وكذلك على مستوى الشعور والغرائز والشهوات والحاجات والرغبات، فإنّ كلّ محاولة للبحث عن سبل إشباع تثمر طمأنينة من دون أن تَهتدي بِهدى الشهادتين لن تزيد الإنسان إلا شقاء وضنكاً وقلقاً واضطراباً؛ ونظرة خاطفة إلى ما يعانيه الإنسان في الغرب تُرِينا مدى الشقاء الذي أنتجه بُعْدُ الإنسان عن فطرته واغترابُهُ عن ذاته، عندما أعرض عن شهادة الفطرة.
وقلْ مثلَ ذلك عن جسده الذي فُصِّلَ ليكون مجهّزاً للعبادة: من مفاصله المتلائمة مع حركة الركوع والسجود والسعي في الأرض، إلى بصره المهيَّأ ليتأمّل جمال وجلال آيات الله في الكون... إنّها فطرة العقل وفطرة الشعور وفطرة الجسد التي فُطِرَتْ شاهدة أن الله هو الربّ (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [الروم30].
ولذلك وردت رواية في صحيح مسلم لحديث أركان الإسلام تجعل العبادة عموماً ورفض مشاريع الكفر ومقاومتها محلّ الشهادتين، للإشارة إلى أنّهما واحد: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «بني الإسلام على خمس: على أن يعبد الله ويكفر بما دونه، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحجّ البيت، وصوم رمضان».
اختيار وقرار:
بقيت إشارةٌ وهي أنّ لفظ التشهّد جاء بصيغة المفرد، تقول "أشهد" لا "نشهد"، دلالة ذلك أنّك قد شهدت هذه الحقيقة بنفسك لا نقلاً عن أهلك أو بيئتك أو تاريخك، واللافت أنّنا في القعود في الصلاة نتشهّد بصيغة المفرد "أشهد" بينما نسلّم بصيغة الجمع «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين» ونقرأ الفاتحة بصيغة الجمع "نعبد، نستعين، اهدنا" فأنت مع أمّتك لا تستطيع أن تنفصل عنها حتّى في صلاتك الفرديّة وأثناء خلوِّك لمناجاة الله، ولكن عندما تصل إلى هذه الشهادة التي تُمَثِّلُ أصل اختيارك للإسلام، فإنّك تتبنّاها اختياراً شخصيّاً واعياً، لا تقليداً للآباء، ولا انسياقاً مع الجماعة بغريزة القطيع. إنّ معرفتك بصدق هذه الحقيقة وصلت إلى حدِّ المشاهدة، بحيث تستطيع أن تشهد بِها، لأنّ الشاهد لا يشهد إلا بناء على المشاهدة الذاتيّة، وليس له أن يشهد بناء على الإخبار مهما بلغت ثقته بِهذا الإخبار.
بناء على ما سبق فأنت عندما تقول "أشهد" يجب أن تستحضر في وعيك وعزمك القرار التالي: إنّني أعلم أنّه لا إله إلا الله، وأعلم مقتضياتِ هذه الشهادة وما يبنى عليها، وإنّني أعلن بملء إرادتي اختيارَ هذا النموذج من العيش وتبنّيه كقضيّة مصيريّة، وكمشروع وحيد صالح لقيادة الإنسان نحو السموِّ والكمال، وأعلن انتمائي إلى أولئك الشاهدين الذين التزموا تحريرَ الإنسان وإنقاذَه من ظلمه وظلامه واغترابه عن ذاته، من أجل إعادته إلى فطرته الصافية، ومكافحة كلّ طاغوت أراد أن يشوِّه الحقيقة الإنسانيّة (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [البقرة256]. 
«لا».. إعلان ثوري:
وهذه الشهادة ترتكز على "لا إله إلا الله" فأوّل كلمة في هذه القاعدة كلمة "لا"، إنّها "لا" في وجه الطغيان، إنّها ترفض ترويض الشعوب على ترداد "نعم"، فالشعب الذي تعوَّد على "نعم" على قاعدة «يسقط الذاهب والآتي يعيش» [الشاعر أحمد مطر] هذا الشعب لا يمكن أن يبدع شيئاً، وسيبقى يعيش تحت أقدام وسياط أسياده.. 
"لا" هذه هي التي أطلقها إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم في وجه طاغوت عصره، "لا" هذه هي التي جعلته يكسر حاجز الخوف ليقول للنمرود وزبانيته: (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[الأنعام81]. 
"لا" هذه هي التي أطلقها موسى في وجه فرعون، ولولا هذه الـ"لا" لبقي بنو إسرائيل في قيد الذلة والخنوع، ولبقي آلاف العبيد يموتون كل يوم تحت سياط الطغيان من أجل أن يبنوا قبوراً لفراعنتهم، ولا تزال الأهرامات في مصر معلماً أثرياً بارزاً يحكي لنا حكاية الظلم والاستبداد الذي مارسه المستكبرون على المستضعفين لإشباع غرورهم المنتفخ الفارغ. 
هذه الـ"لا" هي التي أطلقها سيد الأحرار والأبرار محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم في وجه طغاة مكة، ورَدَّدَها من خلفه عمار وبلال وسمية وياسر وكلّ ذلك الموكب الكريم، ردّدوها في وجه أميّة وأبي جهل وأبي لهب وأبي سفيان وكلِّ الذين اختبؤوا خلف آلهة مزوَّرة ليزيِّفوا وعي الجماهير ويستغلّوها، ويدافعوا عن امتيازاتِهم ومصالحهم ومكاسبهم بحجة الدفاع عن دين الجماهير وتراثهم (ما أغنى عنه ماله وما كسب).. 
"لا" هذه أطلقها باب مدينة العلم عليّ بن أبي طالب عليه السلام في وجه من لبسوا قميص عثمان واستغلُّوا دمه ليتسلَّقوا من خلاله إلى كراسيّ السلطة.. "لا" هذه أطلقها أبو ذرّ رضي الله عنه في وجه من سرقوا مال الناس تحت شعار «المال مال الله».. أطلقها سعيد بن جبير وعبد الله بن الزبير وحُطَيْط الزيّات وكلُّ الذين استُشهدوا في مواجهة طغاة بني أُمَيَّةَ وحَجَّاجهم: يروي الغزالي في إحيائه «أنّ حطيطاً الزيات جيء به إلى الحَجَّاج فلما دخل عليه قال: أنت حطيط؟ قال: «نعم سل عمّا بدا لك فإنّي عاهدت الله عند المقام على ثلاث خصال: إن سُئلت لأصدقنّ، وإن ابْتُليتُ لأصبرنّ، وإن عوفيت لأشكرنّ». قال فما تقول فيَّ؟ قال: «أقول إنّك من أعداء الله في الأرض، تنتهك المحارم وتقتل بالظِّنَّة». قال: فما تقول في أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان؟ قال: «أقول إنّه أعظم جرماً منك، وإنّما أنت خطيئة من خطاياه!!» فقال الحجاج ضعوا عليه العذاب. قال فانتهى به العذاب إلى أن شُقِّقَ له القصب ثم جعلوه على لحمه وشدُّوه بالحبال، ثمّ جعلوا يمدّون قصبة قصبة حتى انتحلوا لحمه فما سمعوه يقول شيئاً» ويروي ابن حبان في كتاب الثقات أنّه عرض عليه الماء قبيل استشهاده فأبى وقال: «لا أشرب إلا من ماء الحياة إن شاء الله عزّ و جلّ». 
"لا" لماء الذلة والمهانة والموت من يد الحجاج، "نعم" لماء العزة والكرامة والحياة عند الله عزَّ وجلَّ.
"لا" هذه أطلقها الإمام الحسين عليه السلام في وجه الطغاة الذين أماتوا السنة وعطّلوا الشريعة «قد نزل من الأمر ما ترون، وإنّ الدنيا قد تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها وانشمرت، حتّى لم يبق إلا كصبابة الإناء، إلا خسيس عيش كالمرعى الوبيل، ألا ترون الحقَّ لا يعمل به، والباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله.. وإنّي لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برماً» [حلية الأولياء لأبي نعيم والإحياء للغزالي وتاريخ الطبري وتاريخ دمشق لابن عساكر] "لا" لخسيس العيش مع الظالمين ، هكذا فهم الحسين عليه السلام معنى شهادة أن لا إله إلا الله وهكذا طبَّقها..
"لا" هذه هي التي أطلقها كلُّ الذين قادوا الثورات ضدّ الاستعمار، وهي التي أطلقها الإمام الشهيد حسن البنا ضدّ الإنكليز وعملائهم، وهي التي أسقط بِها الإمامُ الخميني طغيانَ الشاه وغطرسة أمريكا، وهي التي لا زالت تطلقها المقاومة الإسلاميّة في فلسطين ولبنان والعراق وأفغانستان ضدّ الطغاة اليهود والأمريكان...
إنّك في قولك «لا إله إلا الله» ترفض كلَّ تألُّهٍ من دون الله، ترفض تأليه الطغاة، وترفض تأليه العظماء، وترفض تأليه التاريخ وتأليه التراث وتأليه البيئة وحتى تأليه الذات (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ)[آل عمران79] «لا إله إله إلا الله» ترتقي بك إلى الربَّانيّة التي تتجاوز كل جدران الذاتيّة سواء ذاتيّة الفرد أو ذاتيّة القوم أو ذاتيّة الطائفة والمذهب... (وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) إنّك تعلن أنّه بإمكان الإنسان أن يقول لا لظروفه وأوضاعه الاجتماعيّة والسياسيّة وحتى تراكماته النفسيّة، «لا إله إلا الله» تمنحك الثقة بقدرتك على الاختيار في إعادة صياغة ذاتك، إنّها تحرّرك من سلطة تاريخك، ومن سلطة موروثاتك، ومن سلطة تراكماتك النفسية وماضيك، لتختار لنفسك حياة جديدة محرَّرة من كلّ تلك الأثقال والأغلال (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)[الأعراف 157]..
إنّ «لا إله إلا الله» تعلمّك الرفض الدائم لواقعك ولواقع أمّتك ولواقع الإنسان سعياً نحو واقع أكمل، لتظلّ تطلب الارتقاء الدائم (اهدنا الصراط المستقيم)..
محمد رسول الله.. الإنسان الكامل:
وهذا التصوّر لمفهوم "لا إله إلا الله" ليس تصوّراً مثاليّاً لا يتحقّق في واقع الحياة، فقد تجسّد هذا واقعاً عينيّاً في كلّ الأنبياء والأولياء والصالحين، وقد بلغ هذا التجسّد ذروته في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولذلك أنت تشهد له بالرسالة، وبأنّه تلقّى هذه الرسالة من الله سبحانه، وتَحَمَّلَ كلّ الأعباء في أدائها على أحسن وجه، وفي إقامة شهادتِها على الناس من خلال تحريرهم من سلطة الطاغوت: تحرير النفس من الخوف من هذه السلطة، وتحرير المجتمع من النظام الجائر لهذه السلطة، حتى يتسنّى للناس أن يختاروا بحرّيّة، بذلك حقّق محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم شهادته على عصره، وبذلك ينبغي أن تحقِّق الأمّة شهادتَها على الناس (لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً)..
في الحلقة القادمة: الركن الثاني : الصلاة معراج الواعين ومأوى الثائرين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق