سجل إعجابك بصفحتنا على الفيس بوك لتصلك جميع مقالاتنا

بحث فى الموضوعات

الاثنين، 12 أغسطس 2013

مقالات دينية: الشهادتان.. ثقافة ورسالة وقيادة بقلم الشيخ/ محمد الزعبى



أركان الإسلام بين الكهانة والديانة- الحلقة الثالثة

ونأتي الآن إلى معنى الشهادتين لندرس أبعادهما الإنسانيَّة والثوريَّة اللغويّة والقرآنيَّة:
أولاً نُحَلِّلُ كلمة «أشهد»: لماذا جاء اللفظ بِهذه الكلمة دون سواها من مثل: أُقِرُّ وأعترف وأُوقِنُ وأومن وأعلم...؟ إذا حَلَّلْنا الأبعاد اللغويَّة والقرآنيَّة لهذه الكلمة "أشهد" سنكتشف شيئاً من أهمية هذه الكلمة، وبالتالي سنقترب أكثر من فَهْمِ فلسفة الشهادتين..
قال أبو هلال العسكري في الفروق اللغوية: «الفرق بين الشهادة والعلم أنّ الشهادة أخصُّ من العلم، وذلك أنَّها علم بوجود الأشياء لا من قِبَل غيرها، والشاهد نقيض الغائب في المعنى ولهذا سُمِّيَ ما يُدْرَك بالحواس ويعلم ضرورة شاهداً، وسمّي ما يُعلم بشيءٍ غيره وهو الدلالة غائباً كالحياة والقدرة... فالشهادة علم يتناول الموجود، والعلم يتناول الموجود والمعدوم».
وفي معجم المقاييس لابن فارس: «الشين والهاء والدال أصلٌ يدلُّ على حضور وعلم وإعلام، لا يخرُج شيءٌ من فروعه عن الذي ذكرناه. من ذلك الشَّهادة، يجمع الأصولَ التي ذكرناها من الحضور، والعلم، والإعلام. يقال شَهد يشهد شهادةً. والمَشهد: محضر النّاس (وفي كتاب العين للخليل: مجمع الناس). وقال قوم: شهود النّاقة: آثار موضع مَنْتَجِها من دمٍ أو سَلى. والشَّهيد: القتيل في سبيل الله، قال قومٌ: سمِّيَ بذلك لأنّ ملائكة الرحمة تَشْهَدُهُ، أي تحضُره. وقال آخرون: سمِّي بذلك لسقوطه بالأرض، والأرض تسمَّى الشاهدة. فأمَّا قوله جلَّ وعزَّ: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ)[آل عمران 18]، فقال أهلُ العِلم: معناه أَعلَمَ الله عزَّ وجلَّ، بيَّن اللهُ، كما يقال: شَهِدَ فلانٌ عند القاضي، إذا بيَّنَ وأعلَمَ لمن الحقُّ وعلى مَنْ هو» [انتهى باختصار عن معجم المقاييس لابن فارس].
فالشهادة إذاً معنى جامع للعلم والإعلام والحضور، فالعلم يقتضي أن يفهم المنتسب للشهادتين ويتبنّى الثقافة التي يتضمّنها مشروع الشهادتين (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)[محمد19]، والإعلام يقتضي أن يعلن صاحب الشهادتين خِيَارَهُ بأنّه مع هذا المشروع ومن أنصاره ومن جماعته وحزبه (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) [آل عمران].
هكذا قام هؤلاء الحواريون بالشهادة، بأن تحرّكوا عمليّاً لمناصرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وأعلنوا انضمامهم للشاهدين الذين نصروا مشروع الدعوة، وواجهوا مكر الماكرين، ولذلك جاءت الآية بعدها: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) )[آل عمران]. 
وإذا تخيّلنا الظروف التي كانت تعيشها مكّة وما حولها في بداية الدعوة الإسلامية، من صراع فكريّ وسياسيّ وعقائديّ بين دعوة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وبين نظام قريش الذي كان عبارة عن أعراف وثقافة موروثة عن الآباء يرعاها ويدافع عنها مجموعة من السادة المنتفعين بِها، في خضمّ هذا الصراع العنيف الذي استَخْدَمت فيه قريش حرب الإشاعات والاضطهاد والتعذيب والقتل، كان للشهادتين معنى ثوريّاً عميقاً، كان من يعلن هاتين الشهادتين يعلن أنّه قد تمرّد على الخضوع لإرادة سادة مكة، وأعلن موقفه أنّه قد انحاز إلى هؤلاء الشاهدين بشهادة الحقّ ليحمل معهم عبء الثورة ضد الظلم والباطل لإقامة الحق والعدل، وهي الظروف نفسها التي مرّ بِها كلُّ الأنبياء السابقين، وها هو عيسى عليه السلام يستصرخ أنصار الحقّ وذوي الجرأة والإرادة الحرة (من أنصاري إلى الله)؟ فيخرج من ذلك المجتمع المتحجِّر بل المتصخِّر، يخرج أولئك الحواريّون الأحرار ليعلنوا أنَّهم أنصار الحق، وليشهدوا شهادة الحق، وليعلنوا تمرّدهم على إرادة الظلمة ومكرهم، ولينحازوا إلى الشاهدين .
ومثل ذلك قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ)[آل عمران81] فالنبيّون أدَّوا الشهادة بمضمونِها القرآنيّ لا بضمونِها الكهنوتيّ، وهي أن يؤمنوا بالرسالة وأن ينصروها في الواقع، لا أن يُرَدِّدُوها كلماتٍ جوفاءَ فارغةً من المضمون العملي، بذلك شهدوا وبذلك أخذوا عهد الله، وعلى هذه الشهادة شهد الله سبحانه.. 
والحضور يعني أن تكون الشهادتان عنوانَ حضورك في الناس بمعنى أن تعمل لتكون حاضراً أي قائداً للناس بِهذه الشهادة، ولذلك سُمِّي الذين يتصدّرون القوم بـ"الشهداء" لأنّهم الأوعى لثقافتهم ومفاهيمهم وقيمهم، والأكثر حضوراً بِِهذه الثقافة والمفاهيم والقيم، قال تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[البقرة23] ادعوا «شهداءكم» أي ادعوا مثقفيكم وقادتكم الفكريّين والأيديولوجيّين، ولذلك فَحَمَلَةُ الشهادتين ينبغي أن يكونوا شهداء على الناس أي قادة للفكر والقيم والمفاهيم والثقافة (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)[البقرة143]، والشهادة بِهذا المعنى لا بُدَّ أن يُبْذَل في سبيلها تضحياتٌ وجهادٌ (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ)[الحج78]، فمُهِمّة الشهادة تقتضي جهاداً في الله وإنفاقاً للمال وتنفيذاً لتعاليم الإسلام، وحتى تقيم الأمّة الشهادة على الناس يجب أن تكون وسطاً أي في وسط قضاياهم ومشاكلهم، وكلّ من يريد أن يؤدّي الشهادتين بحقّها يجب أن يكون شهيداً ووسطاً: شهيداً بحضوره بشهادته، ووسطاً بتوسطه لقضايا الناس، أي بإقحام نفسه في وسط مشاكلهم وقضاياهم ليقدّم لهم الحلّ من خلال مشروع شهادة أن لا إله إلا الله. ولعلّ من هذا المعنى سُمِّي الذي يضحِّي بحياته من أجل نصرة رسالة الإسلام بـ"الشهيد"، فهذا الاسم دون غيره يحمل تلك المعاني السامية، فهو شهيد لأنّه الأكثر تجسيداً لثقافة الإسلام، لأنّ ثقافة الإسلام هي مفاهيم وقيم تتجسّد واقعاً عمليّاً في الفرد أوالمجتمع، وهي معانٍ حيَّةٌ يعيشها الإنسان في الحياة والواقع، وليست مفاهيمَ ذهنيةً بعيدة عن واقع الحياة، وهي ترتكز على معرفةِ حقيقةِ هذا الوجود والإنسان، وعلاقته بالخالق، وما وراء هذه الحياة... وبالتالي فإن الأكثر حضوراً بثقافة الإسلام هو من تتجسّد فيه هذه المعاني أكثر، والشهيد (المقتول في سبيل الله) هو أبرز من يُجَسِّدُ معانِيَ العقيدة، ولذلك هو مثقّف القوم وهو قائدهم، لأن دماءه هي الأكثر تأثيراً في حركة أمته، فقيادته وشهادته على الناس لا تنتهي بقتله، بل هي تبدأ بقتله (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ)[البقرة154] إنّهم أحياء لأنّهم وهبوا مجتمعهم الحياة، إنَّهم لا زالوا بينكم يقودونكم نحو التحرّر والتسامي، لأنه عندما يطول الأمد وتتحجَّر المفاهيمُ ويفقِد الفكرُ روحَه وحياتَه (فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم) وحين تعيش الأُمّة في غيبوبة عن هويتها، عند ذلك يحتاج الغائبون إلى الشاهدين أو الشهداء، ليسقوا بدمائهم تربة الحجارة والصخور التي ستتشقَّقُ وتتفجَّرُ ليفيض منها نَهر الحياة مجدداً...
والشهادة لله تعني أن يحتكم الإنسان إلى شرع الله، وألا يخاف من الطاغوت في أداء شهادته (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)[المائدة44].
وأنت عندما تؤدّي شهادةً لا يمكن أن تؤدِّيَها بمفردك، لأن الشهادة لا بدَّ لها من شاهد يشهد، ومشهود تقام عليه أو عنده الشهادة، وقد أقسم الله سبحانه في سورة البروج بالشاهد والمشهود لِيُنَبِّهَنا إلى كيفيّة أداء مؤمني الأخدود لشهادتِهم، عندما كان خِيارُهُم إعلانَ المواجهة مع الطغيان، بما يملك من بطش وجبروت (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)[البروج]. 
في الحلقة القادمة: شهادة الفطرة الإنسانيّة- اختيار وقرار- "لا" إعلان ثوري


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق