سجل إعجابك بصفحتنا على الفيس بوك لتصلك جميع مقالاتنا

بحث فى الموضوعات

الثلاثاء، 30 يوليو 2013

القصة القصيرة : تجديد لأنشودة الصمت بقلم/ مروان محمد




(1)

توقف على درجات السلالم يرهف السمع إلى ذلك الحديث الهامس اللاهث بين الساكنة الجديدة و العربى ثم الضوء ينسحب إلى الداخل سريعا و العربى يغلق باب شقته فى صوت مكتوم.

أصابع قدميها تتسلل فى حذر تام, علت شفتيه ابتسامة باهتة, غمغم محدثا نفسه فى سخرية:

- العربى ذلك الطفل يلاعب نساء متزوجات!

مفتاحه يدور فى ثقب الكالون, يدفع باب الشقة, تفلت منه زفرة حارة, التحم فى فضاء الصالة الملون بالأصفر الكئيب, أغلق الباب و هو يلقى نظرة حزينة على مكان جدته السابق فوق الكنبة فى ركنها المفضل.

فيجد انبعاجات الأسبوع الفائت لازالت تترك أثارها على هذا الركن, اتجه إلى حجرتها المظلمة و صوت المذيع يتدفق رقيقا دافئا من جهاز الراديو الأحمر الصغير, أفاقت على دخوله و جسده يحجب الضوء الشاحب المنبعث من اللمبة السهارى, أدارت له رأسها, جلس على طرف الفراش, يسألها فى صوت هامس:

- كيف حالك اليوم؟

- حالى تسير كل يوم إلى أسوأ و لكن الحمد لله.

- هل ستتركينى؟

- هل تخاف من ضياع الشقة؟

ضحك قائلا:

- لماذا تفترضى فى سوء النية دائما؟

اجفلت للحظة و هى تبلل شفتيها اليابسة بلسانها و هو يقول:

- لا أريدك أن تموتى.

امتدت يدها تعبث بقرص الصوت ليرتفع صوت المذيع أكثر.

(2)

" نحن نقص عليك أحسن القصص"

لأول مرة يلاحظ هذه الأية المكتوبة بالخط الأحمر على لافتة دكان " سعد الخياط", لا يعرف كيف لم يلحظها من قبل رغم وجودها منذ زمن, اطلق ضحكة قصيرة ثم دخل إلى الدكان و هو يلقى السيجارة على الرصيف.

- السلام عليكم يا عم سعد.

- و عليكم السلام يا عاطف.

أشار عاطف بسبابته للخارج و هو يقول مبتسما:

- هل تدرى موضع هذه الآية من القرآن التى تضعها على يافطتك يا عم سعد؟

اشتبك حاجبا سعد للحظات يتفكر ثم فطن عقله لما يشير إليه عاطف و تراجع فى مقعده بعد أن لضم الخيط فى ثقب الأبرة.

- بلى أعرف.

- ........

- سورة يوسف يا عاطف.

ابتسم عاطف فى مغزى خاص فلوح سعد بيده اليمنى و نصفه العلوى يميل على الماكينة السينجر مرة أخرى يقول:

- من سيفطن إلى ذلك يا عاطف, الآية متماشية مع طبيعة مهنتى!

(3)

- كيف حالك يا عاطف؟

- بخير.

- الست الحاجة, كيف حال صحتها الأن؟

- بخير.

- الحمد لله أنها أفضل.

تأمل عاطف الملف البلاستيك المحشو بالأوراق و الموبايل الذى يحمله هذا الشخص فى يده اليمنى, على الرغم من برودة الجو ألا أن الرجل كان يتصبب عرقا.

- أعذرنى فأنا لا أتذكر أسمك.

- أنا أسمى مجدى ... الساكن الجديد يا أستاذ عاطف.

ضغط على كلمتى " الساكن الجديد" كأنه ينبهه إلى حقيقة هامة كان من المفترض أن يفطن إليها من تلقا نفسه!

- بأذن الله الست الحاجة ستتعافى عما قريب, أنا أختى كانت بعافية مثل الست الحاجة و كانت تدهن مكان الألم بزيت حبة البركة فشفيت بعد فترة قصيرة و الأن تجرى كالحصان.

أحس عاطف بأن مجدى لا ينقصه سوى باروكة شعر أنثوية حتى يتحول إلى نصف إمرأة فضولية سخيفة.

- سأخبرها بذلك.

هم مجدى بان يستطرد لولا أن شاهد بصيصا من الضوء يتسرب من الدور الذى يعلوهما ثم الباب يغلق فى صوت مكتوم لينسحب الضوء سريعا إلى الداخل, زفر مجدى مغتاظا و ملامحه تتقلص فى ضيق و هو يقول:

- لا أعرف لماذا لا أرتاح للعربى هذا؟

ابتلع ريقه فى عجالة حتى لا يعوقه عن الاستطراد فى بث كلماته السريعة مبتورة النهايات دائما:

- هناك أشخاص عندما تقابلهم للمرة الأولى يتركون لديك أنطباع سىء.

هز عاطف رأسه دون أن يعلق و مجدى يقول فى طبقة صوت حرص على خفوتها:

- لا أرتاح لما يدور خلف باب شقته و أخشى على زوجتى منه!

أنهمك عاطف أثنا كلام مجدى فى إحصاء القرون الوهمية التى تنبت من رأسه فوجدها قد زادت اليوم ثلاثة !!

غادره عاطف بعد أن تبادلا بضعة كلمات أخرى سريعة, و هو فى طريقه إلى القهوة حاول أن يتذكر هل أوستيك ساعة مجدى كان فضيا أم جلد أسود؟!

(4)

- أنها المرة الأولى التى أقابل فيها رجل عن طريق عامود الراغبين فى الزواج المنتشر بالجرائد.

- كذلك أنا.

أحنقها نوعا ما رده المقتضب و هو يضع ساق فوق الأخرى ملتقطا أحدى سجائره الكليوباترا و عينيه تجولان فى أرجا القهوة يتأمل سحب الدخان, ساد الصم بينهما لثوان حتى مزقت هى ستار الصمت بقولها:

- على الرغم من أننا فى فصل الشتاء ألا أن الجو حار.

ملأ صدره بهوا البحر بقدر ما يستطيع ليغسل الهواء السكندرى السحرى ما فى صدره من اضطراب, بعد زفيره القوى استقر عند أنفه رائحة البحر الملحى.

عيناها الجميلتان الواسعتان تتأملان وجهه فلم تجد فيه ما يلفت أنتباه أى فتاة, همت بأن تنطق بشىء ما و لكن الكلمات تراجعت سريعا وراء حلقها.

- كنت موشكة على قول شىء ما.

داعبت خصلة الشعر التى تنساب فى رقة فوق عنقها الطويل و رسم فيها الصغير شبح ابتسامة و هى تراقب هذين العاشقين اللذان انتخبا ركنا قصى فى القهوة تنقطع فيه صلتهما بالعالم الخارجى.

- هل عندك شقة أو حتى فى سبيلك للحصول عليها؟

هز رأسه نافيا و تفرس فى قسمات وجهها الذى تحاصره لمسات من الكآبة و تجاعيد فى طور التكوين.

أخرج من جيبه ورقة صغيرة و قلم جاف فرنساوى بدون غطاء, سطر فى الورقة بضع كلمات و هو يقول بصوت هادىء:

- على العموم, هذا عنوان بيت جدى, إذا أراد طرف من أهلك السؤال عنى, فأنا أسكن معها.

أومأت برأسها و هى تتناول منه الورقة ثم ناولته كارت قائلة:

- هذا كارت أخى, و به العنوان و رقم التليفون فى العمل.

ضحكت فى عصبية و هى تضيف:

- أنا أعيش فى بيته مؤقتا.

ابتسم متفهما و هو يتأمل شفتيها الصغيرتين المغموستين فى طبقة من الروج الأحمر الرخيص.

(5)

- كيف هو حالها الأن يا دكتور؟

- بخير أنا أعطيتها حقنة كورتيزون و لتدوام على أخذ الحقن الباقية حتى نهاية الأسبوع ثم أحضرها لى فى العيادة لنرى تطورات الامر, و أن لم تحرز أى تقدم مع العلاج الحالى سنضطر إلى تغيره!

لم يرهق عاطف أذنيه بالاستماع إلى ثرثرة الطبيب و صاحبه حتى الباب, أرتفع صوتها بعد أن أغلق الباب قائلة:

- يبدو أن دكتور عبيط يا ولد يا عاطف!

- لا تشغلى بالك.

- أشعر بتقلص شديد فى مؤخرتى يا ولد.

- هذا أمر طبيعى , فلقد أعطاك جقنة فى العضل.

- هل هناك جديد عن أخبار عملك كنجار فى البحرين يا ولد؟

- أنسى هذا الموضوع تماما يا جدتى؟

- على العموم أصبر, الفرج يأتى دائما بعد الشدة.



ابتسم ساخرا و هز رأسه دون أن يضيف كلمة أخرى, فقط جلس على طرف الفراش يتأملها و جفنيها يرتعشان ثم تنام فى هدوء كئيب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق