كتابة: 12-11-2001
تعديل: 2003-4-17
شحته يفرش حصيرة خضراء علي الرصيف السمنتي للبيت الأحمر, يحب كما ألف منذ سنوات عديدة أن ينام في هذا المكان , ويرفض أن ينام في أي مكان اخر بأستثناء هذا المكان , في البداية كان في بئر سلم البيت الأحمر ولكن الست أم ميمي كانت تشتبك معه كل صباح من أجل ألا ينام في هذا المكان حتي استطاعت ان تدفعه بعيدا عن النوم في بئر السلم.
المرة الاخيرة التي اشتبكت معه فيها كانت من اكثر الاشتباكات سخونة ,كان نصف جسدها العلوي يتدلي من علي درابزين السلالم تزعق له وهو يقعد علي حصيرته لا يأبه لها, كل مرة كانت تشتبك فيها معه كان ينفض هذا الاشتباك بكلمه او اثنين وذلك حين يعدها شحته بأن هذه هي المرة الاخيرة التي سينام فيها في بئر السلم.
ولكن هذه المرة لم تكن كأي مرة , خافت أن تنزل اليه لتكلمه حتي لا يتهور ويشج رأسها ينصف قالب الطوب الاحمر الذي يهوش به القطط التي تتجمع علي حصيرته كل صباح ,لم يستطع شحته هذه المرة من كثرة زعيقها ان يتحكم في اعصابه وان يتجاهلها كالمعتاد لانها كانت مصممة فعلا علي ان يغادر بئر السلم , لذلك نهض رافعا رأسه اليها يشتمها بالأاب والأم وهي من دهشتها البالغة انتفضت بشدة واسرعت تدلف الي شقتها وأغلقت بابها عليها قبل أن يخرج الي السلالم أيا من الجيران وقال هو بصوت عالي النبرات:
-مكنش العشم يا أم ميمي ,ده احنا برضه عشرة عمر!!
*******************
الحكايات اللي بتفسر جنان شحتة كتيرة
وكل واحد بيقول حكاية مختلفة
وأسباب جنان شحتة كلها مدهشة
لدرجة أن شحتة ذات نفسة ليه حكاية مختلفة خالص عن سبب جنانة !!
********************
شحتة كان جندي في البحرية لمدة ست سنوات , يبدل ردائي البحرية الأرزق والأبيض كلما تعاقب عليه فصلي الشتاء والصيف , وكان الرداء البحري يبين قوامه مشدودا والذي لفت انتباه الكثير من فتيات محرم بيك.
يقال انه كانت ليه هيبه في الحي واهل الحي كانوا يحترمونه حتي القطط بعكس حاله الراهن وأهل شحتة فيما سبق كانوا يسكنون في الطابق الثالث بالبيت الاحمر , شحتة اسمه الحقيقي سليمان أنما امه اطلقت عليه اسم شحتة وذلك لخوفها من الحسد لأنها قبل ان تلده سبقه عدد من الأطفال الذين ماتوا.
شحتة حب فتاة اسمها هند , ناس يقولون انها فتاة من بنات بحري واخرون يقولون انها كانت تقطن في ذات الحي , والفتاة حتي تتناسب مع سياق الحكي لابد ان تكون جميلة وذات دلال خاص ولكن هذه المرة لم تكن جميلة كالقشطة ولكن مثل رغيف العيش الخارج للتو من الفرن!!
المهم ان شحتة خطبها من أبويها واستمرت خطوبتها لعام , بالتأكيد لأنه صف ضابط متطوع في البحرية ويقبض مرتب لا بأس به فكان يصرف أغلبه عليها والصدمة الحقيقية له عندما اكتشف انها طوال فترة خطبتهما كانت متزوجة من شاب اخر من القباري .
جمال القهوجي يقول:
- مش معقول تبقي من الحته وتكون متجوزة وشحتة يخطبها وكل ده وأحنا منعرفش , حاجات زي كده متستخباش , أكيد كانت من بحري .
الغريب هو ان اهل الحي لا ينسوا اليوم الذي اشتبك فيه شحتة مع ابويها واخويها لدرجه انه طاردهم في شارع عرفان بعصي غليظة يريد ان يشج بها رأس أقرب من تطوله العصي التي يطوحها في الهواء في كل اتجاه بجنون حقيقي , أهلها كما أكد أبوها مرارا فوجئ مثل شحتة بأمر زواجها هذا ويؤكد علي ذلك كلما لقيه أحد من أهل الحي في حين لزمت أمها الصمت التام باتجاه هذا الموضوع .
منذ هذا الحين أصبح شغل شحتة هو ان يبحث عنها في كل مكان ويسال عليها من له علاقة بها ومن ليس له علاقة بها علي الطلاق.
عندما انقضت فتره اجازته لم يعد الي وحدته ,الكل اعتقد انها قد تكون حاله انهيار عصبي مؤقت ولكن ما لم يعرفوه هو ان حالته أبعد ما تكون عن كونها انهيار عصبي مؤقت , أخوه متولي كان يخرج وراءه الي الشوارع ليلا ليبحث عنه وعندما يجده يستجديه ان يعود معه الي البيت فيرفض شحتة بشدة وعندما يلح عليه متولي لا يتورع عن ضربه بعنف, يهبط شحتة كل مساء نحو ترعة المحمودية ويجلس هناك علي ضفتها يتطلع الي مياهها السوداء التي يفرش عليها الكثير من الصور له ولهند وبحصي يبعثر كل هذه الصور ويحولها لالاف القطع التي تذوب في المياه ثم يعود ليرتب عدد اخر من الصور ويبعثرهم مرة اخري بحصي اخر.
ابتدا شحتة يبني في خياله عالم كبير يحقق فيه كل ما تتمناه نفسه ,يركب عالم كامل ابتداء من الصباحية حتي يغشي الليل الحي فيقوم بهدم العالم المتكامل الذي بناه منذ الصباح الباكر حتي يعد نفسه غدا لمهمه اعادة تركيب عالم جديد يحقق فيه امنيات جديدة , شحتة كان يعيد تشكيل القصص التاريخي و الديني ايضا ويعطيها ابعاد جديدة تماما.
شحتة يحب اغاني عبد الوهاب ويغنيها كلها ألا انه انقطع في السنوات الاخيرة عن التغني بها بعدما تعب صدره بسبب شراهته للتدخين , اذ كان يجلس في بئر سلم البيت الاحمر في ظلمة حالكة يغني واطفال البيت يتجمعون كلا عند باب بيته علي السلالم ذات العروق الخشبيه لتخترق ظلمة السلالم حتي تذوب أطرافها الممتدة فوق رأس شحتة بالضبط .
ذات مرة أوقف غناه ولف سيجاره عملها من ورق الجرائد وبقايا التبغ العالقة بالسجائر الملقاه في الطرقات , فنادت عليه هبه بنت ام ميمي تقول: - وقفت ليه يا شحتة ,كمل غني.
- اخرسي يا بت يا هبة وخشي ,أنا مش الاذاعة بتاعة امك!
**********************
سلامه ضاحب دكان الحقائب الجلدية الكائن في ناصية البيت الاحمر بالتاكيد كان عنده حكاية تفسر سبب جنان شحتة .
عندما كان شحتة متطوعا اعتقد أن الجيش المصري ممكن ان يدخل أي حرب ويحقق انتصارات طاغية لو أراد جمال عبد الناصر لأن هناك جندا من السماء تؤيد عبد الناصر وستساعد الجيش المصري اذا دخل في اي حرب , خصوصا مع اليهود !!
عندما أخذ عبد الناصر قرار تأميم قناة السويس علي عاتقه كان متفقا مع جند من السماء ان تدافع عن سماء مصر وان هؤلاء الجند كانوا يوقعون طائرات البريطانيين والفرنسيين وايضا يقوموا ببرجلة خط سير الجيش الاسرائيلي في صحراء سيناء ووضع عبد الناصر الجيش المصري في ركن الاحتياط لان الجند من السماء تكفلوا بالامر!!
كان لزاما عليه أن يصدق ذلك خصوصا وأنه سمع ذلك علي لسان العميد البحري الذي كان يتحدث في جدية تامة !, وأن لم يصدق ذلك كانوا سيقولون عليه مجنون !, وعندما وقعت النكسة كان وقعها علي شحتة أكبر بكثير من اليوم الذي دخل فيه علي أبيه و وجده مسجي علي الأرض وخط الدماء يتحرك في بطء نحو عتبة باب الغرفة وكان سبب ذلك أنة وقع من علي مقعده المتحرك وهو يحاول الذهاب الي الحمام , كانت في عينيه نظرة تشخص نحو شحتة بالتحديد وفيها نظرة عتاب غريبة خاف شحتة أن يفسرها فيلوم نفسه بعدها طوال عمره.
المهم أن شحتة ظل يسأل نفسه ألف مرة "أمال فين الجند من السماء اللي كان بيستعين بيهم عبد الناصر؟, وليه موقعوش طيارات الاسرائيليين في 76 ؟!, مش معقول يكون عبد الناصر كلمهم وتخلوا عنه, دول جند من السماء وهما مبيعرفوش الكذب ابدا"
حاول ان يصطاد الجزء الاخير من زملائه حتي يستطيع ان يحافظ علي الجزء الاخير المتبقي من عقله سليما و لكنه لم يستطع وذلك لأنهم ايضا لم يصدقوا ابدا ان الجند من السماء قد تخلت عن عبد الناصر!
لذلك هرب شحتة من البحرية وسار في الشوارع يكلم نفسه وسلامة صاحب دكان الحقائب الجلدية برهن علي صدق كلامه بأن شحتة في73 عندما بلغه خبر العبور لم يعبا بالخبر لأنه ل يمكن أن يصدق ابدا ان السادات علي علاقه بجندا من السماء مثل عبد الناصر !
*******************
ساعات لما شحتة يفتح قلبه ويتخلي عن جنونه
بيعتقد وقتها انه في لحظة من الشفافية وده خلاه
مرة يقول ليوسف اللبان وهو بيلف سيجارة في دكانه "
" ولاد الحرام لعبوا في دماغي يا يوسف, صدقني ده
مكنش حالي , أنا كت قبل كده شاب زي الفل"
***********************
شحنة ساعة الصباحية يدخل فرن عواد و ياخذ رغيفين عيش, الدخان يتشرب من مسام العيبش و كل الطوابير الطويلة التى تنتظر العيش لا تعترض على فعل شحتة, و كما دخل فى صمت يغادر الفرن فى صمت, و يسير بضع خطوات باتجاه دكان نصر الفولاتى يتجاوز ايضا الطوابير المتكالبة على الدكان و يأخذ ثلاث طعميات يكون حمدى للتو اخرجهم من الزيت المغلى الى المصفاة الالومنيوم و إذ عرض عليه حمدى عرض اكبر من الطعميات يرفض و بعدها يتناول افطاره , يتجه الى رصيف قهوة العنيبسى منتظرا كوب من الشاى فى حين أن حسين بائع البانجو و الحشيش يناوله سيجارة مالبورو فينزع شحتة فلترها فلترها و يشعلها بأخر عود كبريت معه و مع كل رشفة من كوب الشاى يسحب نفس من السيجارة و هو ينظر اللى اللاشىء فى تلك السماء الصباحية حتى يفرغ من كوب الشاى و السيجارة فيقوم ماشيا فى صمته الثقبل مبتدئا فى تركيب عالم جديد تماما مختلف عن عالم امس يحمل مفردات و اطروحات جديدة!!
***************
أم ميمى حاولت ان تصالح شحتة لانه كان عزيزا عليها و كما قال " دى عشرة عمر" فأعدت له سندوتشين فول و وضعتهم فى "السبت" حتى اوقفته فوق راسه المستلقية على الحصيرة الخضراء و رغم ان البادى هو ان عينيه مركزتان على ام ميمى الا انه كان يحاول ان يستوعب السماء كلها بين حدقتيه الضيقتين
- خد السندوتشين دول يا شحتة.
- ضهرى واجعنى قوى يا ام ميمى, مش فقادر أقوم.
- يا راجل ده انت لو قعدت و مديت ايدك تطولهم, اقوم بلاش كسل
حاول ان يجلس و لكنه تراجع عن ذلك و نام على جانبه الايمن متجاهلا وجودها تماما, نادت عليه ام ميمى ثلاث مرات حتى يأست منه, ربطت طرف حبل "السبت" فى ماسورة حبل الغسيل و دخلت, وقتها انتصب جالسا و اخذ السندوتشين و أكلهما و ارسل الولد سامبو المنجد ليأتى له بكوب من الشاى من عند قهوة العنيبسى و الا سيبعثر له كومة القطن التى حلجها فى وسط الشارع المملوء بالطين و مياة المجارى!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق