سجل إعجابك بصفحتنا على الفيس بوك لتصلك جميع مقالاتنا

بحث فى الموضوعات

الاثنين، 31 مارس 2014

دراسات: نثر- شعر: استخدام المفارقة في القصة القصيرة جدا (فاطمة السنوسى) نموذجاً بقلم/صلاح الدين سر الختم على


فاطمة السنوسى رائدة القصة القصيرة جدا في السودان تتميز ببصمة خاصة في الكتابة ، فهى من جهة سبقت في انتاجها الكتابة النقدية عن فن القصة القصيرة جدا فى السودان وربما في العالم العربى، وهى كتابة تأخرت كثيرا ولازالت شحيحة، فاطمة السنوسى قدمت نماذج ناضجة لفن القصة القصيرة جدا فى وقت مبكر نسبيا ، هو مطلع الثمانينات، وجاءت نصوصها المبهرة نصوصا تعليمية مكتملة النمو ولم تحفل باخطاء البدايات التى لاتزال مصاحبة لكثير مما ينشر على انه قصة قصيرة جدا ، وهو أمر مثير للدهشة ويعنى ان فاطمة السنوسى كانت ملمة بشكل عميق بفنيات كتابة القصة القصيرة ومطلعةعلى نماذج محكمة لذلك النوع، فالمعرفة لاتستحدث من العدم، وبسبب قلة الظهور الأعلامى للكاتبة التى انسحبت من المشهد الثقافى السودانى منذ نهاية الثمانيات وعاشت فى المنفى، لم يلامس النقاد السيرة الذاتية لها ليتم القاء الضوء على ينابيع تجربتها الثرة المدهشة بالرغم من أن نصوصها المعروفة نشرت بالصحف السيارة فقط ولم يتم جمعها ونشرها بكتاب على حد علمى. لكن التجربة المتفردة وقفت بناية شاهقة تلفت نظر المهتمين بتاريخ القصة القصيرة جدا في السودان ، وان لم تلق نفس الإهتمام والإنصاف من النقاد العرب الذين كتبوا عن تاريخ القصة القصيرة جدا في العالم العربى، بل تجاهلوا تجربتها وريادتها واهتموا بكتاب لاحقين لها و ليس عذرا لاولئك النقاد عدم وجود كتاب مطبوع لاعمال القاصة فاطمة السنوسى، فمعظم كتاب القصة القصيرة جدا يكتفون بالنشر للتجارب في الصحف السيارة والمجلات المتخصصة ومؤخرا النشر الالكترونى. نحاول التعريف بفاطمة السنوسى وتجربتها المهمة ونصوصها وطريقتها في الكتابة زاعمين ان نصوصها تعتبر نصوصا تعليمية ذات فائدة كبيرة لكل من يهتم بهذا الفن المستحدث. ومن جهة أخرى نريد انصاف الكاتبة ونصوصها ووضعها فى المكان اللائق بتفردها وتجربتها. فى هذه الدراسة نستعرض جانبا من تجربة فاطمة السنوسي مع القصة القصيرة جدا وهو تقنية استخدام المفارقة بأنواعها المختلفة في كتابة القصة القصيرة جدا، وننهج منهجا تطبيقيا في هذه الدراسة لتكون إمتدادا لدراستنا النظرية عن المفارقة، والغرض واضح وهو يحقق عدة أهداف مجتمعة: ربط الدراسة النظرية بالواقع العملى وعملية انتاج النصوص وتحليلها لتقريب الصورة للكتاب والنقاد، تبيان الإحكام الفنى والتجويد فى نصوص فاطمة السنوسى للتدليل على ريادتها واهميةتجربتها الابداعية. تمليك القارئ منهجية علمية لتحليل وفهم النصوص .

تعريف المفارقة:

مصطلح المفارقة،وهي أن تفهم لفظ على عكس معناه أو تكّوِّن فكرة عن شيء على عكس حقيقته . تعتبر المفارقة من أهم مقومات النص الإبداعي ، خاصة في الرواية والدراما. سواء كانت مفارقة في اللغة بين الدال والمدلول والدلالة؛ أقصد مرونة الدلالة بين اللفظ والمعنى. أو مفارقة في الموقف بين التصور أو المعرفة والفهم لعكس الحقيقة . أو مفارقة في الحركة بين الحركة الطبيعية للإنسان والحركة غير الطبيعية ،سواء كانت آلية أو حيوانية أو معوقة ( و هذه عادة توظف في الكوميديا ). عند الرجوع إلى «قاموس أكسفورد» وجدناه يشير إلى أن مصطلح(Irony ) مشتق من الكلمة اللاتينية (Ironia) التي تعني التخفي تحت مظهر مخادع، والتظاهر بالجهل عن قصد، وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

١- هو شكل من أشكال القول يكون المعنى المقصود منه عكس المعنى الذي تعبر عنه الكلمات المستخدمة، ويأخذ - عادة - شكل السخرية حيث تستخدم تعبيرات المدح، وهي تحمل في باطنها الذم والهجاء.

٢- نتاج متناقض لأحداث كما في حالة السخرية من منطقية الأمور.

٣- التخفي تحت مظهر مخادع أو الادعاء والتظاهر، وتستخدم الكلمة - بشكل خاص - للإشارة إلى ما يسمى بـ «المفارقة السقراطية» من خلال ما عُرف بفلسفة السؤال، وكان سقراط يستخدمها ليدحض حجة خصمه. هى كلام يبدو على غير مقصده الحقيقي،أو أّنها كلام يستخلص منه المعنى الثاني الخفى من المعنى الأول السطحي، إ ذ ن المفارقة لعبة لغوية ماهرة وذكية بين طرفين: صانع المفارقة وقارئها، على نحو يقدم فيه صانع المفارقة الّنص بطريقة تستثير القارئ، وتدعوه إلى رفضهبمعناه الحرفي، لصالح المعنى الخفي، الذي غالبا ما يكون المعنى الضد. وهو في أثناءذلك يجعل الّلغة يرتطم بعضها ببعض، بحيث لا يهدأ للقارئ بال إ لا بعد أن يصلإلى المعنى الذي يرتضيه ليستقر عنده،فالمفارقة إًذا "لغة اتصال سري بين الكاتبوالقارئ أو بين المرسل والمستقبل. والمفارقة قد تكون جملة، وقد تشمل العمل الأدبي كلَّه. وتتعدد أشكال المفارقة وأهدافها، فقد تكون سلاحا للهجوم الساخر، وقد تكون أشبه( بستا ر رقيق يخفي ما وراءه من هزيمة الإنسان".)وتحتاج المفارقة - في صناعتها- إلى مهارة لغوية خاصة، كما تحتاج إلىإحكام بالغ الدقة للعلاقة بين الشكل والوظيفة،أو بعبارة أخرى بين المقال والمقام. "وُتعد المفارقة من زاوية المعجمية التاريخية عاملا من عوامل الّتطور الدلالي لّلغة، من حيثإ ن الّلفظ يكتسب معها معنى جديدا هو من معناه القديم بمنزلة النقيض، وذلك حين يكون الخطاب للّتهكم ونحوه"

( 1). والمفارقة صيغة من التعبير تفترض من المخاطب ،بمعنى أن المخا طب يد رك في التعبير ،(Double audience) ازدواجية الاستماع المنطوق معنى حرفيا يكمن في ناحية، ومن ناحية أخرى فإّنه يدرك أَ ن هذا المنطوق -في هذا السياق- لا يصلح أن يؤْخذ على قيمته السطحية، ويعني ذلك أَ ن هذا المنطوق،يرمي إلى معنى آخر يحدده الموقف التبليغي، وهو معنى مناقض- عادًة - لهذا المعنى الحرفي، وبناء على ذلك تبدو المفارقة نوعا من الّتضاد بين المعنى المباشر المنطوق،والمعنى غير المباشر"ويتخصص هذا المفهوم قليلا بالمفارقة الدرامية حيث تنطق الشخصية المسرحية بشيء له عندها وعند ،(Ironie Dramatique)الشخصية الأخرى التي تخاطبها معنى ما، ولكن هذا الشيء الذي تنطق به له -عندالنظارة- معنى مختلف تما ما".

( 2) إ ن هذا الَتضاد الذي نتحدث عنه يلحظه القارئ أو المخا طب من خلال السياق.1)- خالد سليمان: المفارقة والأدب، دراسات في النظرية والتطبيق، دار الشروق للنشر والتوزيع، عمان، د.ط، . 1991 ، ص: 08. 2)- نبيلة إبراهيم: فن القص في النظرية والتطبيق، ص: 197 ).هذا باختصار تعريف نظرى موجز للمفارقة كمصطلح نقدى وفلسفى. ولابد للناقد والكاتب من منهجية معينة يستخدمها لمعرفة المفارقة وبنائها فى النصوص والتعرف عليها وعلى دلالتها حيث وجدت. والمفارقة لا تكون إلا عندما يكون أثرها مزيجا من الألم والّتسلية، ولا تترك القارئ إ لا بعد أن تكون قد رسمت على شفتيه ابتسامة هادئة تصحبها السخرية من الضحية. وهي -أي المفارقة- رفض للمعنى الحرفي من الضحية، هذا الرفض للمعنى الحرفي للكلام يكون لصالح المعنى الآخر، المعنى الذي لم يعبر عنه. وقد استقر النقد والنقاد على منهجية معينة للتعرف على المفارقة فى النص. وتتمثل العملية فيما يلى:

الخطوة الأولى: رفض المعنى الحرفى للنص:

ينبغي على القارئ أن يرفض المعنى الحرفي، وليس أمرًا كافيًا أن يرفض القارئ هذا المعنى لأنه لا يوافق عليه، وليس كافيًا أيضًا أن يقوم بإضافة معانٍ أخرى من عنده. فإذا كان القارئ يقرأ قراءة دقيقة، فإنه لن يستطيع تجاهل هذا التنافر أو التعارض بين الكلمات وما يعرفه هو «أى القارئ». وفي كل الأحوال، فإن السبيل إلى معانٍ جديدة يمر عبر اقتناع صامت لا يمكن أن يتوافق مع المعنى الحرفي. وينبغي أن نلاحظ شيئين فيما يخص هذه الخطوة الأولى، وهما رفض افتراض ما، لأننا ينبغى علينا أن نرفض هذا الافتراض الصامت أو غير الواضح،. كما ينبغي على القارئ أن يتمكن من الإمساك بما يعتبره البعض مفاتيح خارجية.

الخطوة الثانية: التأويل البديل :

يقترح القارئ تأويلات أو شروحًا بديلة، وسوف تكون كل هذه التأويلات متعارضة إلى حد ما مع المعنى السطحى الظاهر لما يقوله النص، ومن المحتمل أن تكون غير متوافقة، ولكنه بالتأكيد سوف يراجع نفسه. وربما يقول: إنها سقطة من الكاتب، أو أنه مجنون، أو قد مرَّ شىء في البداية لم ألاحظه، أو أن هذه قد تعني شيئًا لا علم لى به.

الخطوة الثالثة :التعرف على القصد المحتمل أو المرجح للكاتب:

وبناء عليه يجب أن نتخذ قرارًا بشأن معتقدات الكاتب، فعندما يقول فولتير: «إنها تمطر»، فإن ثقتنا في أن فولتير كان يستخدم المفارقة تكون عظيمة لدرجة ترقى إلى مرتبة الحقيقة، ونعتمد على قناعتنا بأنه مثلنا، يرى ويرفض ما تتضمنه العبارة «كلا الجانبين يستطيع أن يكسب الحرب نفسها». إن هذا الحكم على معتقدات الكاتب يتماشى مع تأويل المفارقة الثابتة Stable Irony ولا يتم إدراك المفارقة الثابتة بدون الوصول إلى هذا الحكم.ونلاحظ أن الخطوتين الأولى والثانية في حد ذاتيهما لا تستطيعان أن تقولا إن العبارة بها مفارقة. ولا يهم إلى أي مدى نكون مقتنعين اقتناعًا راسخًا بأن العبارة غير منطقية وغير معقولة وأنها محض زيف واضح. ويجب علينا أن نقرر: هل الأمر الذي نرفضه مرفوض أيضًا من وجهة نظر الكاتب؟ وهل للكاتب سبب منطقي يجعله يتوقع أن نتفق معه؟. من البديهي أن الكاتب الذي يثير اهتمامنا به ليس إلا الشخص المبدع المسئول عن الاختيارات التي صنعت العمل، وهو ما يسمى بـ «المؤلف الضمنى» Implied Author الموجود في العمل. والحديث عن «المغالطة المتعمدة» أو «المقصودة» حديث صحيح لكنه لا يستطيع أن يحل مشكلاتنا النقدية، فنطلب الكاتب على الهاتف ونسأله ماذا كان يقصد بعبارته تلك أو هذه. إن أفضل دليل على النوايا الخفية التي تكمن خلف أية عبارة في نص هو النص كله. ولأجل بعض الأهداف النقدية، سوف يكون من المعقول أن نتحدث عن مقاصد «النص» وليس عن مقاصد «الكاتب». ولكن التعامل مع المفارقة يجعلنا نشعر بأن الحكم - بشكل نهائي - على دعوتنا ما يزال متجسدًا في وعي الكاتب حينما نكون مدفوعين باتجاه التأويل الصحيح. وفي نهاية الأمر: ينبغي أن نقول إنه ليس من المنطقي أن يكون الكاتب قد وضع هذه الكلمات بهذا الترتيب دون أن يكون قد قصد هذه المفارقة الدقيقة.

الخطوة الرابعة استنباط معنى جديد:

بعدما نكون قد اتخذنا قرارًا بشأن معرفة ومعتقدات الكاتب أو المتحدث، نستطيع في نهاية الأمر أن نختار معنى جديدًا أو نختار حزمة من المعانى التي نشعر معها بالاطمئنان. وعلى عكس الافتراض الأوَّلى، فإن المعاني التي يعاد بناؤها يجب أن تكون متوافقة مع المعتقدات الخفية غير المعلن عنها التي قرر الكاتب أن يعزوها إلى المؤلف. وهنا تلعب ثقافة الناقد وقدراته وخبراته والمامه بالموضوع وبيئة النص دورا كبيرا فى تاويل النص وترجيح هذا المعنى أو ذاك، ويجب الوضع فى الاعتبار ان شرط الاجادة في استنباط معان جديدة ليس هو موافقة الكاتب على التأويل أو رفضه، بل العبرة بمنطقية التحليل حسب عبارة النص وظروف انتاجه، وقد يكشف الناقد معان خفية حتى على كاتب النص نفسه ، وتلك هى ميزة من ميزات النقد الأمين العميق. إن استنباط المعانى الخفية المضمرة هو فى حد ذاته عملية انتاج لنص جديد واعادة انتاج لنص مقروء، وحتى عملية إعادة الإنتاج في الحقيقة هى إبداع أصيل للناقد مثلها فى ذلك مثل عملية بناء لحن موسيقي لقصيدة ليست للملحن ومثلها مثل اداء المغنى للقصيدة واللحن ففى العمليات الثلاث هناك بصمة شخصية لكل من الناقد والملحن والمغنى وهناك منتوج إبداعى خاص به لايلغيه كونه يشتغل على نص آخر. وهذا هو مايعرف بالحقوق المجاورة فى الملكية الفكرىة. ومثلما تتطلب كتابة النصوص الإبداعية المقرؤة ثقافة عالية وإلماما بشروط انتاجها من كاتبها ، تتطلب ذات الشئ مضافا اليه ملكة خاصة وذائقة نقدية ومعارف مفهومىة لدى الناقد تمكنه من فك شيفرة النص ومحاورته وإستنطاقه. على هدى من هذه المفاهيم ندلف الى عالم فاطمة السنوسى المدهش لقراءته وتحليل النصوص بحثا عن كيفية انتاجها ودلالتها الكامنة ومنهجية بناء النص عند فاطمة السنوسى. من خلال قراءتنا لمجموعة كبيرة من نصوص الكاتبة لاحظنا ملاحظات أولية مهمة:

1/ انتاج نصوص فاطمة السنوسى ليس صورا بلاغية منمقة جميلة ، بل هى كتابة واعية بشروط انتاج الجنس الأدبى الذى كتبت تحت مظلته وهو القصة القصيرة جدا، وتكشف النصوص عن امتلاك الكاتبة لمعارف نقدية متقدمة حول هذا الفن، تجلت في بنية نصوصها بشكل ملفت.

2/ المفارقة بانواعها المختلفة حاضرة حضورا مدهشا ودائما فى مجمل التجربة الإبداعية للكاتبة، بحيث يمكن الجزم بعدم وجود نص خال منها.

3/ تتميز نصوص فاطمةالسنوسى بالتدقيق في اختيار الكلمات والجمل والإقتصاد الشديد فيها، مما يؤكد وعيها بأهمية التكثيف في القصة القصيرة جدا.

4/ تميل فاطمة السنوسى الى استخدام الجمل الفعلية.

5/ لاتخلو القصة من الطرفة والسخرية وعنصر الإدهاش والمفاجأة في الخاتمة.6/ القصة القصيرة جدا دائما تتميز عندها بالوحدة فى الزمان والمكان والحدث وقلة الشخوص والأحداث، والسير مباشرة نحو الهدف دون تمهل أو ابطاء.

المفارقة الدرامية فى نصوص فاطمة السنوسى:

ارتبطت المفارقة الدرامية بالأساس بالمسرح، فهى متضمنة بالضرورة في أي عمل مسرحى، لكن هذا لا يعنى عدم وجودها خارج المسرح، وهى تكون أبلغ أثرًا عندما يعرف المراقب ما لا تعرفه الضحية. كذلك تتحقق المفارقة الدرامية عندما يعرف المراقب ما لا تعرفه الضحية. وهذا النمط من المفارقة متداخل بشكل أو بآخر مع ما يعرف بمصطلح «مفارقة الأحداث» والمفارقة الدراميةهي ((المفارقة التي ينطوي عليها كلام شخصية لا تعي أن كلامها يحمل إشارة مزدوجة: إشارة إلى الوضع كما يبدو للمتكلم, وإشارة, لا تقل عنها ملاءمة, إلى الوضع كما هو عليه, وهو الوضع المختلف تماما مما جرى كشفه للجمهور) ومن خلال قراءة العديد من نصوص الاستاذة فاطمة السنوسى نستطيع التقرير باستخدامها للمفارقة بوجه عام والمفارقة الدرامىة على وجه الخصوص فى نصوصها.

قراءة النصوص:

النص الأول :

(خلعت ثوب عافيتي لأنشره عليك..ما وجدتك..صار في الدنيا مريضان.)فى هذا النص الصغير الرحب، بكلمات قليلة جدا سردت القاصة المبدعة قصة حب خالدة صورت فيها شغف المحبين وتفانيهم واخلاصهم فى الحب، لكنها لم تورد تلك المعانى صراحة، بل فعلت كما يفعل الشعراء فى الإستعارة المكنىة ، حذفت ماتريد قوله وأشارت اليه باشياء وافعال من لوازمه، صورت امرأة عاشقة سمعت بمرض حبيبها، فهرعت حاملة ماتملك وهو عافيتها لتهبها له حتى ينهض من وعكته ويتعافى ولو هلكت هى، لكن المفاجأة كانت أنها سقطت مريضة هى الأخرى مثله، وفقدت عافيتها، وبذلك صار فى الدنيا مريضان، الدلالة هنا، انها حين عجزت عن وهبه عافيتها، شاركته الألم فسقطت مريضة مثله حتى لايتألم وحده، انها صورة شفافة وعصية على التكرار للحب وأحوال المحبين رسمتها ريشة مبدعة بذكاء مفرط،فالنص المخادع يبدو للوهلة الأولى رسالة من حبيبة الى حبيبها أو خاطرة عادية لاقصة فيها، لكن من يطبق منهجية البحث عن المفارقة لتحليل النصوص يدرك حين يرفض المعنى الظاهر الحرفى للنص، أن النص لها دلالةمخبوءة وكامنة وحين يبحث عنها تخرج قصة الحب المروية من بين السطور عملاقة هادرة كمظاهرة صاخبة ونرى الدموع تسيل على خد المحبوبة مثل حبات لؤلؤ أنفرط عقدها فأخذت في التساقط واحدة تلو الأخرى، ونشعر بالتياعها والحزن الذى اعتصر قلبها، ونراها تركض لتفدى حبيبها الذى تفتك به الحمى بنفسها، فتسقط فى منتصف الطريق مغشيا عليها ، يحملها المارة صوب المستشفى فتجاوره فى غرفة العمليات حين استعصى عليها أن تخرجه منها معافى ، حينها تبتسم ويدها الصغيرة تتسلل بين السريرين لتلامس يده. حينها نتساءل ( ماذا ارادت الكاتبة قوله بهذه الصور المفعمة بالمحبة والتفانى والشغف بالمحبوب؟) حينها تكون الاجابة هى ان القصة تمجد هذه القيم الجميلة وتدعو لتعزيزها وبقاءها فى عالم لاهث لايعترف بالحب ومشاعر المحبين، عالم يصنع القنبلة الذرية ويمتنع عن بناء أكواخ للمحبين ومستشفيات ولادة وحدائق لاجنود فيها ليتهامس فيها العشاق دون ان يزعجهم قانون العقوبات أو الطوارئ أو الدبابات أو القنابل، انها دعوة لتمجيد الحب فى الأرض واعلاء شأنه. وتطوف بالمخيلة قصة هدية عيد الميلاد للكاتب الأمريكى العصامى أو هنرى التى صور فيها قصة حب بين زوجين، جاء عيد الميلاد وكلاهما لايملك شيئا ليشترى هدية عيد الميلاد للاخر ، فباع الرجل ساعته ليهدى الزوجةدبوسا ذهبيا لشعرها الطويل، ففوجئ بانهاقد قصت شعرها وباعته لكى تهديه هدية ذات صلة بساعته.المفارقة فى تلك القصة مفارقة درامية مثل هذه، وفى النهاية أهدى كل من الزوجين الآخر شعورا لايقدر بمال الدنيا وكنوزها، تمجيد رائع للحب والمشاعرالانسانية هو هذا النص البديع لهذه الكاتبة الشفيفة.

النص الثانى:

(في قلب سحابة بعيدةحفرا مخبأ لحبهماامطرت السحابةانسكب الحب على المدينة)المعنى الظاهر لهذا النص ، عاشقان خائفان من ذيوع سرهما ( حبهما) تركا الأرض بما فيها ومن فيها، وحفرا حفرة للحب في جوف سحابة لحمايته من فضول البشر، لكن المفاجأة التى لم تكن في حسبانهما ولم تطف بخاطريهما تحققت حين هطلت السحابة مطرا على الأرض التى هربا منها وأخفيا حبهما عن أهلها، فتحقق عكس ما اراد العاشقان وذاع سرهماوانتشر في المدينة. القارئ قد يظن لأول وهلة من الفهم السطحى الظاهر للنص ان النص ليس بقصة، ولكن النص في الحقيقة قصة قصيرة جدا توافرت فيها كل مقومات القص القصير جدا،فالتكثيف حاضر بقوة، والمفارقة سيدة الموقف وتشمل كامل النص المراوغ الذى لايبوح بكامل اسراره الا اذا ادركنا المفارقة ومغزاها وتوصلنا الى المضمر المخبوء خلف الكلام السطحى الظاهر، المفارقةمفارقة درامية مثل قصة عقدة أوديب المشهورة التى اراد فيها الأب تفادى النبوءة فحققها من حيث لايرغب،بطلا القصة ارادا اخفاء عشقهما وتلك دلالة خفية على كون العشق محرم ممنوع وملاحق ومطارد في البلاد مثل المخدرات والسموم وماهو بمخدر ولاسم حتى يلحق به حكم التحريم الخاص بهما، محاولة اخفاء العشق اذا دلالة على مدلول هو القمع للحب في مجتمعنا الشرقى وتم حذف المدلول وتركت الدلالة عليه وهو (الإخفاء) ليستخلص منها القارئ الخفى والمضمر بين سطور القص، والاخفاء للحب في( السماء) دون غيرها لم يورد اعتباطا أو عبثا، بل أن له دلالتان: الأولى : هى ان الخوف من البشر، من الأرض، لا من السماء، فالأرض هنا دلالة على البشر . وهناك دلالة ضمنية هى ان البشر هم مصدر القمع الذى يخاف منه العشاق.الثانية: هى أن الخوف الذي يعترى العاشقين خوف من البشر، وليس من الله، ذلك أن الله لم يحرم الحب ولم يقمعه، بل حرمه البشر وقمعوه ولاحقوه بالهمس الظالم والظنون والصفات الحاطة من قدره برغم انه فطرة الله التى فطر الناس عليها وجعلها أساسا للتزاوج حين جعل السكينة الى الاخر من اسباب تشريع الزواج، وهل السكينة الى الاخر هى شئ سوى الحب؟! وفي الدلالة هنا حوار فلسفى طويل حول الحب والمفاهيم الخاطئة عنه. تتحقق المفارقة الدرامية فى النص حين تمطر السحابة فتخرج السر المخبوء بجوفها وتعيده الى الأرض مشاعا ً منتشرا على الجميع وهنا يتحقق عكس ما اراد العاشقان( أرادا الستر، فحدث هتك الأستار، أرادا الخفاء والإخفاء ، فحدث البوح والإعلان،أرادا الباطن ، فوجدا نفسيهما فى الظاهر) وهناك دلالات لهذا الإفشاء للسر من قبل السحابة:

الدلالة الأولى: أن مايخبئه الناس باعتباره عارا يستوجب المساءلة والقمع، هو خير عميم لاتستقيم الحياة بدونه، فبدون الحب والزواج والعطاء لاينبت شئ فى الأرض ولايتحقق التكاثر، تماما كما يحدث للطبيعة كلها، فالأرض بلا سحاب يجلب الخير لاتنبت شيئا.الدلالة هنا أن عدالة السماء نصرت الحب ، فوضعته في قلب الغيث وهطلت به على الكون كله حجة على الناس الذين انكروه وجعلوا أهله يخبئونه خوفا منهم.السحاب لايحمل في جوفه سوى الخير، اذن الحب خير مستفيض وليس شرا.

الدلالة الثانية:حين فر الحب الي السماءمن القمع وحيدا ليختبئ، تمت اعادته منصورا بالغيث الى الأرض معززا مكرما، علانية وليس خفية، وهذه دلالات خفية على النصرة والأنتصار. هكذا يخرج المضمر الخفى من بين السطور القليلة عملاقا ضخما لاحدود لجماله وقوته وتعدد معانيه الكامنة. وقد لاح لى هنا تناص ظاهر _مع الفارق_ بين خروج الحب من الأرض خائفا يترقب، وبين خروج سيدنا موسى من مدينة فرعون خائفا يترقب فى سورة القصص (: ( فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين ( 21) وذلك بجامع الخوف من الظالمين فى كلا الحالتين.والاستعانة بالسماء فى كلتا الحالتين.والفارق الظاهر هو قتل سيدنا موسى عليه السلام نفساً.بينما المحبين لم يفعلا ذلك. هكذا ند ان استخدام المفارقة في النص كان استخداما مقصودا ومتعمدا وتم باحترافية عالية جملت النص واعطته أبعادا ساحرة وعمقاً.



النص الثالث:

(اخذت حبل وصلك المقطوع حاجزاً من شك وعقدة من خوف ونصبت مشنقة لحبككان الحب كبيراً ما طوقته المشنقةفشنقت اوهامى وحررت شهادة بقاء ابدي للحب الكبير)النص هنا نص مراوغ يقدم نفسه فى شكل رسالة حب برئية جدا موجهة الى الحبيب تفيده انها باقية على العهد، لكن يجب ملاحظة الكلمات( حبل) و(حاجز) و(عقدة)و ( مشنقة) و( شهادة) وملاحظة الافعال(أخذت) و(نصبت) و(طوقته) و(شنقت) و(حررت). المفارقة حاضرة في هذا النص بقوةممثلة فى أن الحبيبة ونتيجة للشكوك والظنون والمخاوف التى فتكت بها بسبب قطع الحبيب للتواصل قررت ان تحرر شهادة وفاة للحب بعد أن تنصب له مشنقة إفتراضية( بمعنى ان تحكم على العلاقة بالموت والإنتهاء بقرار من جانب واحد) وحين حزمت أمرها وقررت اتخاذ ذلك القرار فوجئت بأن مابينهمامن حب أكبر من حبال المشنقة التى نصبتها، توارت المشنقة خجلا، واكتشفت هى عظمة الحب وأنه أقوى من غضبتها العابرة وظنونها وهواجسها، لذلك وبدلا من كتابة شهادة وفاة له كما اعتزمت، قامت بتحرير شهادة خلود للحب. وهكذا انتصر الحب الكامن داخلها بلا( حبل) ولا (حاجز) ولا( عقدة) ولا (مشنقة) منصوبة ولا ( شهادة ميلاد أو وفاة) على كل أدوات القمع ممثلة في القرار المتعسف من جانب واحد ( الدكتاتورية) هى الرمز هنا، وكل ادواتها في القمع من طنون وهواجس وحواجز وحبال معقودة للشنق وللقيود ومشانق واجراءات بيروقراطية لاتضيف شيئا لحقائق الحياة الموجودة بدونها وباستقلال عنها ف ( الموت) و( الحياة) موجودان سواء صدرت شهادة ميلاد أو وفاة أو لم تصدر. مرة أخرى ينتصر النص للحب في مواجهة القمع وللحياة في مواجهة الموت وللحرية في مواجهة القمع.فاطمة السنوسى قصصيا هى خير معبر عن المرأة العربية وشوقها للحرية والحب ودفاعهاعنهما. نصوصها تنتصر دوما لإرادة الحياة في وجه ارادة الموت وارادة الحب فى وجه الكراهية.

النص الرابع:

(كتب إليها وكان على فراش المرض«لن أموت حتى لا تبكي فتحمر عيناك الجميلتان»لكنها حين قرأت الرسالةبكت.. فأحمرت عيناها الجميلتان)يبدو هذا النص قريبا من سابقه، فهو يصور تبادلا جميلا للمحبة بين عاشقين يخاف كل منهما على الآخر من النسيم، فهو يعدها وعدا مستحيلا( بأنه لن يموت) حتى لاتبكى فتحمر عيناها الجميليتان، فهو على فراش المرض لايخاف من الموت بقدر مايخاف عليها من البكاء وإحمرار عيناها!! كان قصده من الرسالة والوعد المستحيل تخفيف وقع خبر مرضه عليها، لكن الرسالة حققت عكس ما أراده، فقد تسببت في بكائها واحمرار عيناها!! وهنا تكمن المفارقة المدهشة والخاتمة المتوهجة، فكل ما أتخذه البطل من احتياطات لدرء الخطر عنها باء بالفشل وتحققت مخاوف البطل، فهل تحققت المخاوف لأن وعده كان كاذبا ومستحيلا؟ أم انه كان فى الأصل يقصد خلافا للظاهر أن تبكيه وتحمر عيناها؟ّ! ولماذا بكت هى هل أبكتها الرسالة والمشاعر المخبوءة فيها ؟! هل كانت الرسالة وداعاً مبكرا وحين وصلتها كان المرسل قد غاب غيابه الأخير لهذا بكت لأنه كان يفكر فيها حتى آخر رمق؟! أم أبكاها خبر مرضه وشعوره نحوها؟! تتناسل الأسئلة ولاأجابة حاسمة تلوح، لكن المؤكد والثابت ان المفارقة تحققت ونال البطل عكس ماتوقع وأراد. الملفت للنظر في هذا النص هو وجود أكثر من مكان وحدث في النص برغم تكثيفه، فالمكان الأول سرير المرض حيث البطل يكتب رسالته، المكان الثانى مكان الحبيبة وهو مجهول حيث قرأت الرسالة وبكت. هناك مقابلات جميلة بين الأفعال في النص فهو(كتب) وهى (بكت) يجب ألا تفوتنا ملاحظة التلاعب بالحروف ذاتها وصيرورة المعنى مختلفا، فالحروف نفسها تتكون منها الكلمتان السابقتان. وهناك (فتحمر) و(فاحمرت) ينطبق عليها نفس الشئ ، فالكلمة واحدة، لكن الأولى تعنى شيئا سيحدث ولم يحدث بعد، بينما تعنى الأخيرة شيئا حدث فعلا وانتهى. هذه المقابلات هى مما يميز أسلوب الكاتبة. المعنى الخفى للنص هو معنى بعيد جدا عن المعنى الظاهر أشارت اليه الكاتبة بدلالتين هما ( المرض) و(الموت) ، ودعمت الإشارة بتقنية (الإستباق ) أو التوقع لحدث ما قبل وقوعه،و (القدر) المشار اليه بما حدث فعلا. وبينهما زرعت محاولة لتفادى وقوع المتوقع. وبذلك كله نشأ صراع الارادات في النص، فالحبيب الذى داهمه( المرض) تذكر القدر المتربص (الموت) وخاف من أثره على الحبيبة( والتوقع لبكائها هو نوع من الاستباق) وحاول الحبيب منع حدوث ذلك الأثر بارسال رسالته تلك، ولكن القدر كان أقوى فتحقق ماخشى منه. المغزى الخفى هنا ان المرض والموت يتربصان بالحب الدوائر، وتبدو فرص النجاة معدومة من كلاهما مهما فعل المحبون لتفادى ذلك،فدوام الصحة محال والخلود محال، لذلك فأن الأفضل ان نتعايش مع حقائق الحياة ولاندع الهواجس تفسد علينا حظنا في الحياة.

النص الخامس:

(سألها عن مدى حبها له فأجابت بأنفاسك أحيا، فكتم انفاسه مداعبا فماتت!)هذا نص باذخ في تصويره لحقيقة الحب، فقد سألها عن مدى حبه لها فقالت له انها تعيش بأنفاسه، فظنها تتلاعب بالألفاظ وتتحدث مجازا، فكتم أنفاسه على سبيل المزاح، فانقلب المزاح ماساة ، ماتت البطلة وتبين أنها تعيش بأنفاسه فعلا، لكن البطل وقع ضحية المفارقة، فهو لم يك يدرى أنها تقول الحقيقةوحين حاول التأكد مزاحا فقد الحبيبة فلم يعد للحقيقة التى عرفها من قيمة فقد اصبحت مجازا! كانت الحقيقة أمامه فظنها مجازا، وحين أدرك أنها حقيقة لم يعد لها وجود وباتت مجازا.المغزى الخفى للنص ان الشك يقتل الحب الحقيقي، لأن الحب حين يحوطه الشك يتبخر مع الظنون ويبقى الهلام فقط. موت الحبيبة هنا مجازى وليس حقيقىا والمقصود به، ان الشك فى قلبه طرد حبه من قلبها، فبات قلبها ميتا تجاهه.

وهكذا تحذق الكاتبة تقنية المفارقة وتبنى نصوصها دائما على مستويين: ظاهر دال على آخر خفى، وخفى مدلول عليه ببعض آثاره وعلاماته.مع ملاحظة الأنسنة الدائمة للنصوص عند فاطمة السنوسى، فهى تكتب دوما عن الإنسان وصراعه فى الحياة وتنتصر للقيم الإيجابية وتدين القسوة والفظاظة والأوضاع المزرية التى يرزح تحتها الإنسان المعاصر.

النص السادس:

(تحاببنا بصدق، توحدنا..سألني صورتي..فأعطيته المرآة..) هذا النص روعته في في خاتمته، فالخاتمة عند فاطمة السنوسى تحمل اللغز وحله، المضمرودلالته القوية، الخاتمة عندها هى القنبلة الملقاة من طائرة والتى يتوهج المكان بضوئها فتلمح العين الإبرة فى كومة القش، لكن تلك الومضة قصيرة العمر، فهى لاتدوم طويلا ، ولكنها تتجد مع كل قراءة للنص.سؤال النص لماذا اعطته المرآة؟! الإجابة مضمنة في الكلمة السابقة لجملة (سألنى صورتى) وهى كلمة( توحدنا) المغزى هو قطعة احجية مخبوءة بين ( توحدنا) و(فأعطيته المرآة) وتفسيره بسيط جدا: توحد العاشقان صارا روحا واحدة وعندما سألها صورتها أعطته المرآة لان صورتها باتت محفورة فيه وداخله ولم تعد منفصلة عنه، فحين ينظر فى المرآة سيراها هى وبذلك لايحتاج الى الصورة وقد ملك الأصل!! يا للروعة. صراع الظاهر والخفى والدال والمدلول عليه فى قمته فى النص.



النص السابع:

(عبر منفذ صغير اقتحمت حياته..دخلت عالمه الرحب..استغرقتني كنوزه..ضاعت مني بوابة الخروج)المفارقة هنا هى مفارقة الورطة،فهى دخلت حياته بالصدفة(عبر منفذ صغير) ومن ثم اقتحمت عالمهالذى تبين لها انه (رحب) ومتسع وليس صغيرا كالمنفذ الذى دخلت به، واخذت تتجول فى هذا العالم وتكتشف في كل لحظة جديدا، حتى تاهت فيه ولم تعد تعرف كيف تخرج ، الورطة هنا تشير الى انها غيرراغبة في الخروج فقد اختارت الإقامة الدائمة ولم تعد بحاجة لمعرفة طريق الخروج، وهكذا نكتشف ان رسالة النص هى ان الورطة ورطة جميلة في الحقيقة ، بل هى اختيار واع مارسته. نلاجظ المقابلات في النص ( منفذ صغير) دخلت به( مقتحمة) ونلاحظ انها دخلت من (المنفذ) وليس( المدخل) وتقا بل ( المنفذ الصغير) ( بوابة الخروج) المخصصة أصلا للخروج وهى بوابة كاملة وليست منفذا صغيرا، الإشارة هنا الى كونها تسللت الى حياته وطابت لها الإقامة ورفضت الخروج لكنها تتظاهر بانها تائهة عن بوابة الخروج عمدا. الإشارة هنا الى كونها تسللت الى حياته وطابت لها الإقامة ورفضت الخروج لكنها تتظاهر بانها تائهة عن بوابة الخروج عمدا.الخفى فى النص هو أن الحب لايطرق الباب ولايستأذن أحدا عند الميلاد، فهو يأتى كالعاصفة بلا ميعاد، لكنه لايرحل سريعا كالعاصفة والبرق، بل يبذر بذوره فى المكان ويركل عصا الترحال ومفتاح الخروج ويبقى سيدا للدار والمكان. انه تمجيد آخر لعاطفة نبيلة.



النص الثامن :السخرية المرة وثنائية الحب والقمع:

(اقتادوه إلى مركز الشرطةلأنه حين يذكرهاينبض قلبه بعنف مسبباً الازعاج العام.)خلافا للعادة المتبعة عند فاطمة السنوسى وهى ان تبدأ بايقاع هادئ ثم يتصاعد الإيقاع كلما اقتربنا من النهاية حيث يبلغ قمته، فى هذا النص بدأت من أعلى نقطة(اقتادوه الى مركز الشرطة) حتى يثور السؤال في الذهن مباشرة( ماهو جرمه؟) فيأتى الرد العجيب المدهش (لأنه حين يذكرها ينبض قلبه بعنف مسبباً الازعاج العام) !!!! وعلامات التعجب من عندى.ينتهى النص وتتقافز الأسئلة الموجعة (أى بلاد هذه التى تعتبر الحب جريمة وضربات قلوب المحبين جريمة تسبب الإزعاج العام وتستوجب الإقتياد الى قسم الشرطة؟!) ان المفارقة هنا تتفق مع تعريف بعض النقاد لمصطلح المفارقة بما يفيد انها السخرية الواعية والتهكم المقصود الذى يخبئ في ثناياه رسائل كامنة ودلالات.فالنص تهكمى ولكنه يحوى نقدا مراً لأوضاع تساوي بين الحب والجرائم الموصوفة في قانون العقوبات وتقتاد المحبين الي اقسام الشرطة لاسباب مضحكة ونتذكر ان النص كتب بعد تجربة قوانين سبتمبر 1983 في السودان التى أثارت الرعب في الشوارع وبات السير في الشارع مع فتاة أو سيدة شبهة تبرر الاستيقاف والاقتياد الى قسم الشرطة، فجاء النص ساخرا من تلك الأوضاع مفلتا من الرقابة باعتماده المفارقة والسخرية لاخفاء مغزاه الحقيقي. انه نص يشكل امتدادا لثنائية الحب والقمع الموجودة فى معظم نصوص فاطمة السنوسي والتى تعبر عن هموم المرأة والشباب السودانى في حقبة مظلمة من التاريخ شهدت انتهاكات رسمية جسيمة للحريات الشخصية وشكلت قطيعة مع إرث سودانى عظيم من التسامح وسيادة روح سودانية لاتعتمد الشك أساسا للتشريع ومحاصرة الحريات.

النص التاسع:(الطرفة والمدح بما يشبه الذم والذم بما يشبه المدح)

(قرأت مرة بالصحف إعلاناًمن دائرة الشرطة برصد مكافأةلمن يدلهم علي رجل يملك إمتاعالعقل والروح والعين والفؤادفي لحظة واحدة..خنت حبيبي..أرشدتهم إلى مكانه وقبضت المكافأة)

فى هذا النص تلجأ فاطمة السنوسي الى مفارقة تعتمد على الطرفة والمدح بمايشبه الذم والذم بما يشبه المدح للايحاء بالمضمون المخبوء بين السطور والمموه جيدا،فهى تريد أن تتحدى ادوات القمع ممثلة فى الشرطة وتجاهر امامها بحبها علنا دون ان تعاقب ودون ان تفهم الضحية( الشرطة) انها موضع سخرية وتندر،فصاغت النص بحيث يفهم من ظاهره أن الشرطة اعلنت عن حاجتها لرجل تنطبق عليه مواصفات حبيبها ولأن الشرطة تعرف ان الشعب لن يتجاوب معها بلا مقابل فقد اعتاد الشعب انها تقبض على الناس وتعرض المكافآت مقابل ارشادها على المطلوبين ولن يصدقها ان قالت انها تريده لطلب برئ، لذلك قرنت الشرطة الإعلان بمكافأة لمن يرشد عنه( لم تنس اداة القمع اساليبها السيئة فى افساد الناس) هذه هى الإشارة الخفية، ومن ثم قامت البطلة بخيانة حبيبها وأرشدت الشرطة عنه وقبضت المكافأة، هذا على حد تعبيرها وظاهر القصة، لكن القصة تفيض سخرية فمن تخون حبيبها لاتتغزل فيه وتصفه بأنه(رجل يملك إمتاع العقل والروح والعين والفؤادفي لحظة واحدة..) والشرطة لايمكن ان تصف مطلوبا لديها بهذه الأوصاف، ولايمكنها ان تتحول فجأة من أداة مهمتها قمع المحبين ومطاردتهم في الشوارع والحدائق العامة بالسياط والهروات ، الى حمامة وديعة ورسول سلام يجمع شمل العشاق ودور رسول المحبة، إذن ماذا تقصد الكاتبة بهذا النص؟ هل خانت حبيبها فعلا؟ هل الشرطة بحثت عن رجل بمواصفات حبيب؟ هذه الاسئلة تقودنا الى قناعة راسخة بان النص لايجسد حقيقته ، انما يحتوى على رسالة مخبوءة ومضمرة مفادها ان الشرطة يجب ان تكون في خدمة الحب وليس هراوة في وجهه، وانها يجب ان تكف عن ترويع العشاق وافساد الناس بالرشاوى والقمع ويجب ان تكون اداة محبة لا كراهية . وهكذا تتوغل فاطمة السنوسى مجددا فى ثنائية الحب والقمع وترفع زهور الحب الملونة في وجه القيود والهراوات الغليظة.

النص العاشر: الأمومة محبة طاهرة( مفارقة الطرفة والإدهاش)

(يضحكنى حبيبى فهو قصير القامة جدا ،مستدير الوجه جدا ،صغير الوجه جدا ،يفشل فى تقبيلى لاننى عندما انظر اليه انفجر بالضحك احببته معنى..همت به حقيقة اعطيته الحياة.. اطال لي حياتى، نادانى.. ياماما ناديته ..يارجل، فقد بلغ من العمر .. ثلاث سنوات)

تقدم فاطمة السنوسي فى هذا النص الرائع صورة تتدفق أمومة وحياة تجسد فيها مشاعر أم تجاه طفلها، وتتمهل في السرد عمدا لتوحى للقارئ والمستمع انها تتحدث عن حبيب وعن علاقة حسية نوعا ما وتخبئ مفاجأتها حتى النهاية عند جملة( فقد بلغ من العمر ثلاث سنوات) التى تنفجر فى وجهنا كقنبلة ،لنكتشف ان من تتحدث عنه الراوية هو محض طفل صغير هو طفل الراوية نفسها، فنضحك. وكان حقيقا بنا أن نبكى على أنفسنا، فقد غررت الراوية بنا جميعا واستدرجتنا الى فخ أعدته بعناية وعلى مهل، فحتى عندما ناداها( ياماما) لم نظن انه طفل وكنا لازلنا ننتظر مزيدا من أسرار تلك العلاقة التى انصرفت أذهاننا إليها..وثمة ملحوظة هنا وهى أن ورود الطرفة والإدهاش في الخاتمة كان هو مركز الثقل في القصة ولحظة الكشف المفاجئ الصادم وليس التقرير، مع إن البوح بشخصية الحبيب يعتبر تقريرا، لكن فى سياق القصة لم يكن ذكر شخصية الحبيب شرحا للقصة أو لمغزاها، بل كان هو لحظة الصدمة وأداتها وأداة الكشف عن المغزى، فالطرفة هنا ليست مقصودة لذاتها، ولكن بهدف السخرية من انصراف ذهن الناس كل ماجاء ذكر الحبيب والحب إلى علاقة حسية بين رجل وامرأة، النص يقول لاتعتقلوا مارد الحب ومفهومه الكبير فى زجاجة الأفكار المسبقة ولا تختزلوا الحب في العلاقة الآثمة بين رجل وامرأة، لاتبحثوا عن سر مخبوء خلف كل استخدام لكلمة حبيبي.باختصار سخرت الكاتب من المجتمع بأكمله وأخرجت لسانها له فى آخر جملة في القصة.

النص الحادى عشر( نوستالجيا الحنين فى لوحة )

(في مطار ناء فخم وأنيق رأى حقيبة متهالكة،فبكى وضج في اعماقه الحنين ،لم يعرف الحقيبة لكنه عرف ذرات التراب التي على الحقيبة)تعزف فاطمة السنوسي ببراعة علي أوتار الحنين في هذا النص وتتنقل ببراعة بين المعنى الظاهر للنص الذى يجسد حالة فردية لشخص غائب عن وطنه وتشير اليه بضمير الغائب وتورد حالته ولاتصف ملامحه ولاتعطى أى معلومةعنه، ربما لتؤكد بصرامة على أنه نموذج مختار ليمثل قطاعا واسعا من الناس أو مفهوما وأنه رمز وليس شخصا معينا بالذات، ونشعر ان هناك معنى ومعانى مستترة بين السطور الظاهرة،فالرجل الذى هو فى مطار بعيد وفخم نعرف انه لاينتمى لتلك البلاد البعيدة فهى منفى اجبارى بالنسبةله، والحقيبة المتهالكة المجهولة بمعنى انها تخص غيره عليها ذرات تراب عرفها صاحبنا هى دلالة على انها حقيبة تخص مهاجرا جديدا قادما من ذات الوطن الذى قدم منه الرجل، بمعنى انه قادم جديد ذكر الرجل بماضيه ، بيوم بعيد جاء فيه من الوطن بحقيبة متهالكة عليها ذرات تراب حملها صاحبها عمدا لتذكره بالوطن أو صاحبته سهوا، وفى الحالتين لاتغنى تلك الذرات الصغيرة من تراب الوطن عن الوطن، لكنها ذكرت الرجل بلحظاته تلك بشجنها وحزنها ومرارتها، فبكى وطنا نائيا بعيدا أكرهته الظروف وأجبرته على مغادرته. الرجل في الحقيقة نموذج لعشرات الألوف بل مئات الألوف من السودانيين الذين تخطفتهم المنافئ الاجبارية بسبب الظروف القاسية في بلادهم على امتداد فترات الحكم الوطنى، فجميعها بلا استثناء عجزت عن وقف نزيف الهجرة وعجزت عن توفير حياة كريمة لابناء السودان. النص انشودة مطر حزينة مماثلة لصرخة السياب في الخليج حين داهمه الحنين الي العراق فشرع يبكى شعرا:

مطر ..

مطر ..

أتعلمين أيَّ حُزْنٍ يبعث المطر ؟

وكيف تنشج المزاريب إِذا انهمر ؟

وكيف يشعر الوحيد فيه بالضّياع ؟

بلا انتهاء – كالدَّم المراق ، كالجياع ،

كالحبّ ، كالأطفال ، كالموتى – هو المطر !

ومقلتاك بي تطيفان مع المطر

وعبر أمواج الخليج تمسح البروقْ

سواحلَ العراق بالنجوم والمحار ،

كأنها تهمّ بالشروق

فيسحب الليل عليها من دمٍ دثارْ .

أَصيح بالخليج : " يا خليجْ

يا واهب اللؤلؤ ، والمحار ، والرّدى ! "

فيرجعُ الصّدى

كأنّه النشيجْ :

" يا خليج

يا واهب المحار والردى .. "

أكاد أسمع العراق يذْخرُ الرعودْ

ويخزن البروق في السّهول والجبالْ ،

حتى إِذا ما فضَّ عنها ختمها الرّجالْ

لم تترك الرياح من ثمودْ

في الوادِ من أثرْ .



مفارقة التحول والذوبان فى الآخر عند فاطمة السنوسى:

تتكرر عند فاطمة السنوسى مفارقة التحول وهى تقنية تلجأ فيها الراوية الى تقمص شخصية الحبيب ثم ترصد رد فعل الآخرين.(وضعت قلبي على لساني لأكون صادقة القول ولأنك ملء القلب تلونت بك كلماتي فأصبحت إمرأة عذبة الحديث) فى هذا النص الساحر فاض شعورها بالحب تجاه الحبيب فوضعت قلبها على لسانها حتى تأخذ من صدقه المستقر بقلبها صدقا، فكانت النتيجة أن كلماتها تلونت به فأصبحت فى نظر الآخرين (عذبة الحديث)، انها تبحر صوب ضفافه الآمنة بإصرار ، هى تبحث عن الذوبان فيه مثلما يذوب جدول صغير يحمل ماء عذبا فى النهر. وتتكرر المسألة نفسها في نص آخر مشابه:(وضع طپيپهآ آلسمآعة على صدرهآ .. نظرت آليه معآتپه.. إستدرگ آن قلپهآ لم يعد معهآ فوضع آلسمآعة على صدره)في هذا النص الأخير تعلن التحول للاخرين وتلزمهم به، فهي تجبر الآخرين على رؤية الحب ، هى لاتخبئه هنا في جوف سحابة ، بل تجاهر به وتفرض على الاخرين احترامه، ان العاشقة تتحرر من الضغوط وتنتقل الى مواقع الهجوم بدلا من مواقع الدفاع. وفى نص آخر تقول:

(في قاعة الدرس تجاورنا(اخذ قلمي مرةولم يرده..اخذت عقله ولم ارده ،على هذا الحال تخرجنا،مر الزمن.. ونسيت قلمي غير انه ما زال يبحث عني عله يسترد لبه المفقود)

في النص أعلاه لاتكتفى بقلب الحبيب بل تأخذ لبه معها، وأخذ هو قلمها فى المقابل، المقارنة معدومة، فالقلم اداة والعقل هو كابينة القيادة، هى المنتصرة اذن.وفى نص آخر تجملت بالحب وخرجت للشوارع ، فكانت النتيجة مبهرة ومدهشة:(على الطريق العام كنت أسير ذات يوم وأفكاري معك..عاكسني أحد المارة ممتدحاً جمالي..أدركت في الحال أن الحب الذي يملؤني..قد فاض على وجهي..) النص فيه تناص مع مقطع للقاص بشرى الفاضل بعنوان (البنت التى طارت عصافيرها) يقول المقطع(خرجت من عندها ممتلئا بها حتى غازلنى الناس فى الشوارع)

اكتمال التحول:

فى هذا النص بلغ التحول والذوبان فى المحبوب قمته، حين باتت ترى بعيون حبيبها وقلبه( اكتمل الذوبان) (في وسط السوق..شاهدت منظرا أدمى قلبي..فرأيت حماية لقلبي أن أضعك على عيوني.. وأنظر الدنيا من خلالك..ما أن فعلت ذلك..حتى رأيت شحاذاً يعترض المارةيعطيهم ولا يأخذ منهم)المخبوء فى هذا النص هو انها حين نظرت بعينيه رأت العالم ورديا وسابحا فى الجمال عملا بمبدأ كن جميلا ترى الوجودجميلا، فقد رأت بعينيها ما أدمى قلبها، وحين نظرت من خلال المحبوب رأت مشهدا غاية فى الروعة والجمال:رأت شحاذا يعترض المارة ويعطيهم ولايأخذ منهم شيئا!! هل ثمة جمال فى الكون مماثل لهذا الوضع المقلوب؟جمال الوضع المقلوب هذا معناه ان الحب يطهر القلوب ويجعل العالم مكانا جميلا. نصوص فاطمة السنوسى تبقى موسيقى حالمة وصورا رائعة من الحياة تعزف فيها قاصة متمكنة على سلالم المفارقة بذكاء وإدراك عميق لأدوات عملها مما جعل من تلك النصوص نصوصا ذات قيمة فنية عالية فهى تجسد ابداعا مميزا ومتعة لاحدود لها. والمدهش ان النصوص من حيث المضمون تعالج بإصرار أوجاع العالم الداخلى للإنسان، تعكس معاناته وجوعه للحنان وتشرده فى عالم متحجر القلب لايرحم ولايعترف بالحب والرحمة وتسود فيه القسوة والفظاظة والعنف، فتشيد الكاتبة بنصوصها عالما موازيا ، رقيقا في عبارته، حالم الإيقاع، له نزعة انسانية واضحة تتجلى فى تقديس الحب والتبشير بالمحبة وفضح كل فظاظة موجودة فى الأرض وتمجيد قيم الجمال والحرية والكرامة الإنسانية.

الثانى والعشرين من نوفمبر 2013

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق