سجل إعجابك بصفحتنا على الفيس بوك لتصلك جميع مقالاتنا

بحث فى الموضوعات

الثلاثاء، 4 فبراير 2014

مقالات سياسية: جنيف آخر مرة بقلم/ عبد الرازق أحمد الشاعر


تعلقت أعين الشاخصين بأبصارهم نحو أي سماء بشفاه الإخوة كرامازوف في جنيف، لكن الجالسين على الأرائك الوثيرة هناك استمروا في عجن الكلمات في أفواههم ومط شفاههم ونفخ أوداجهم متنكرين لكل الغصات والزفرات اليائسة التي خلفوها وراءهم في ساحة الحرب الأهلية في بلادهم. كالعادة، أصر رجال الأسد على بقاءه فوق رقعة الشطرنج المحروقة، في حين أصر فريق المعارضة المفاوض على رحيل الرجل من المشهد السوري تماما. وبين شد وجذب متوقعين للغاية، احتدمت النقاشات، وعلت الأصوات فوق صوت المعركة. لكن الفريقين القادمين من محيط اليأس السوري إلى طاولة الأمل في جنيف توافقا أخيرا لمدة دقيقة من عمر المفاوضات على الوقوف حدادا على أرواح الهالكين في حرب الشام البربرية.
الصمت إذن لا الكلام هو أبجدية الحوار الأولى التي يمكن أن تشكل قاعدة للتفاهم المشترك بين مندوبي عزرائيل في جنيف. صحيح أن أصحاب البزات الفخمة لم يذهبوا إلى هناك للوقوف أمام أفعالهم الدنيئة صامتين ليشهدوا العالم أجمع على عجزهم المطبق عن الخروج من رحم الهزيمة، لكن الصمت خير من حوار طرشان لن يسفر في النهاية إلا عن جنيف أخرى. 
بعد انتظار طال ثمانية أشهر عجاف، ظن الواقفون حفاة فوق رمضاء الشام أن تحديد ملعب للقاء غير ودي بين رجال النظام ورموز المعارضة كفيل بنزع فتيل كرة اللهب من الواقع السوري وإعادة المستضعفين إلى أراضيهم المحترقة، لكن الأمل ظل يخبو ويخبو على مدار ثلاثة أيام كاملة، وفجأة ألقت المعارضة رصاصة الرحمة على رأس الجدل، وطالبت الوفود جميعها بالوقوف حدادا على القتلى من كافة الطوائف، وهو ما رسم بسمة باهتة على شفتي الأخضر الإبراهيمي اليابستين.
لكن السوريين تحت خطوط القصف حتما لن يقنعوا بعودة سفرائهم من جنيف بخفي صمت بعد أن فوضوهم لإيجاد مخرج من ورطتهم الوجودية هناك. الصمت الوحيد الذي يمكن أن يقبله العاضون على أرواحهم فى الجحيم السوري صمت الرصاص، فقد مل الباقون على قيد الحرب هناك أزيز الطائرات وبراكين البراميل المتفجرة في كل واد، وملوا لون الأرض المخضب بالقرمزي وتموجات الأزياء العسكرية. من حق من تبقى من فوق الرماد السوري بعد المحرقة أن ينعم ببضع ساعات من رقاد.
الصمت ليس حلا أيها الجالسون حول الدوائر المستديرة في جنيف، وأمامكم يوم أخير عصيب لرسم خريطة أمل لأطفال لم يعودوا كالأطفال. أمامكم فرصة نجاة أخيرة لوطن لم يعد ككل الأوطان بعد أن لفظ خيرة أبنائه وقودا لحرب شيطانية فاجرة، فلا تلقوا أقلامكم وتديروا ظهوركم لآخر شعاع فجر يمكن أن يخترق سماواتكم الملبدة بالقبح، ولا تعودوا لثرثراتكم البائسة في جمعة قد لا تتكرر. 
لا أدري لماذا يذكرني وقوفكم صامتين أمام محفة النهاية برواية "صمت الموتى". في تلك الرواية، تنفخ الروح في الدمى، فتقوم من مرقدها لتقتل من حولها بدم بارد بعد أن تقتلع ألسنتهم. فهل تمارسون فعلا هواية القتل اللذيذ بكلامكم الغث وصمتكم القميء وابتساماتكم البلهاء وراء كل الشاشات؟ ومن بالله خلع ألسنتكم الذربة وحولكم إلى دمى تصمت حين يجب الكلام وتتكلم حين يستحسن منها الصمت؟ أم تراكم ستحملون لشعوبكم الطامحة للحياة صناديق ملأى بالدمى في طائرات العودة إلى الخلف؟ 
ما زال في جنيف متسع للأمل، لكنه أمل اليوم الواحد والأخير. فإما أن ترسموا خارطة حياة أو تدمروا كل أنفاق النجاة فوق رؤوس الجميع. صحيح أن شعلة الأمل ضعيفة واهنة، لكنها خير من عودتكم إلى مسقط أحزانكم أذلة لتمارسوا هواية القتل الصامت حتى يأتي دوركم فتنالوا من الله ما تستحقون.
عبد الرازق أحمد الشاعر
أديب مصري مقيم بالإمارات
Shaer129@me.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق