سجل إعجابك بصفحتنا على الفيس بوك لتصلك جميع مقالاتنا

بحث فى الموضوعات

السبت، 22 يونيو 2013

قصص قصيرة: وقع الأحرف بقلم/ محمد الجودى



توقفتْ هذه اللحظة، وخارتْ كلّ قواها، واختلط عليها الأمر، وتخلّتْ عن الكتابة، وتركتْ مُوشّح ألمها في محبرة حروفها... تعبتْ وهي تعاقر تفاصيل الأمس بمعول الحبر، ومجداف القلم، وسطوة الحرف، ولعنة المفرد المذكر، وغيرة التاء والنون من فحولة الواو والجمع السالم، وتزاوج المفتوح بالمغلق.

تكتبُ في أوراقها المبعثرة أوقات خلود الناس لنومهم قصة تختلفُ عن الواقع والخيال معا... لها تفاصيل يعرفها قلمها وقلبها فقط... ربما هي غريبة حقا، أو أن وقع الكتابة هو السبب؟

فهي ممن يبالغ في استعمال "ربما" وتزيد من وطأة تساؤلاتها عن حالها المُتعثر، رغم أنها لا تحبذ الميم، لأنها تكف عمل "ربّ"، فتصبح "ربّ" بوقعها الجديد أصلية غير زائدة في مملكتها الحرفية المتغايرة عن الواقع والخيال المتخيّل.

توقفتْ واستحالتْ إلى قطعة جماد فوق سريرها في عتمة الليل، ورمتْ مُلاءَته ولُحافه، وكأنها تُريد أن تكشف أنوثة جسمها للظلام، وتترك ذكورة قلمها للقرّاء وحدهم... فهي في حالة بحث عن نديمٍ يختلف عن البشر؛ لا يحمل طباعهم، ولا يُتقن لغتهم، ولا كُرهم، ولا خيانتهم... تركتْ جسدها له، وألقمتُه كل أعماق أُنوثتها، وكأنها تُريد أن تتحول إلى محبرة يغطس فيها ذكورته وظلاميته، لأنها تبحثُ عمن يرأف بها، وإن كان عتمة مُخيفة.

استسلمت له استسلام المحبّ، وترنّج كامل جسمها أمام سطوته العفوية، وممارساته الظلامية. منحته كامل الشاطئ الأنثوي، والأعماق الرديفة، وتركتْ قطرات عشقه الندية تسير على شفتيها قطرة وراء قطرة، وهو يتجرّعها واحدة تلو الأخرى، مٌحركا شفتيه على مبسمها المتورّد برقة وانسيابية. وفي غمرة التلاقح الوردي، تسمع صدى القصيدِ من عمق أعماقها، فتُحاول أن تقوم لتوقّع بأحرفها صداه. لكنه يُمسكها ويُقيّد جسمها بجسمه، فيُشغلها بلمسات جديدة، وحركة لعوبة كبيرة... تستجيب له مرة، لكنها تكسر قيوده وتتوقف عن سحر مناجاته مرة أخرى، فيغضب بشدة... يهزها فوق السرير بقوة... تتألم منه... فتدرك أنه مثل كل ذكوري، مهنته التلذذ بألم الجسد الأنثوي.

تتوقف عن لعبة اللمس والغمز الذكوري، وتطرده من غرفتها، وتُبيد عتمته بتراتيل قرآنية خافتة، تَخرج من صدرها بألم وقسوة. ومع كل آية دموع تسقط وتنهار بسقوطها، وكأنها ارتكبتْ معصية حين تركتْ أفكارها تُعاقر السواد... فجأة تلتحف بما تجده أمامها في لحظة السقوط... تبكي... تتنهد... تشهق... تُطلق زفرات متتابعة... تلطم وجهها... تتوقف أخيرا بعد أن أدمتْ قلبها، وتُدرك مع إشراق الصبح أن صديقها الصدوق هو قطعة صغيرة على الورق؛ فهو يختلف عن ذكورة غبية في ظلمة ليل كئيب رخيص، لأنها أرادتْ أن تبحث عمن يُشاركها أحرفها، ولغتها، وجسمها، وهسهسة قولها، ونبضات حنينها. تبحث عن دفء الكتابة، لأنها كاتبة صوفية، تؤمن بأفكار الحلول، وتعشق شاعرها النبيل القائل:

((أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا))

كانت الكتابة بحروفها المنثورة مياها باردة تملأ وعاء قلبها، وتدخل صالة عشقها، لطرد الأحرف الحزينة، وشُهب العبارات، وسفوح الكلمات. فهي تكتب قصة جديدة، وسُنبلة شِعْرٍ ندية. وفي كل مرة يكذب حرفها عليها، ويخونها بوحها. فتحوّلتْ مساحة الورقة إلى ألم يعتصرها، وجرح غاضب مُتجدد، فتصبر وتُصبِّر ذائقتها الكتابية بكتابة جديدة. وتُخرج من دولاب الأبجدية حروفا أخرى، تحسبها راحة لها، فتجد أنها مطوّقةٌ... تحاول أن تلوذ بالفرار من أسرها وألمها ووقع الأحرف عليها... تُكابر وتنتفض انتفاضة الياسمين أمام جبروت الريح، فتقدِمُ على محاولة أخرى لكسر الخوف وطوق الهزيمة، وتهديم أضرحة الألم، وخنادق الضياع. فتسدلُ كامل ستارة الأبجدية أمامها، وتدخل سوق الكلِم منتشية، منبسطة، وصدرها يملؤه الحنين لقلمها وأوراقها وفكرة الحلول. تخطُّ أول حرف في الورقة... وما هي إلا لحظات حتى تُنهي كتابتها وتضع قلمها في ركن بعيد من مكتبها... تتوقف وكأنها تدرس حركات عدوها... ربما اعتقدت لوهلة قصيرة أنه ينادِم الألم مُتخفيا عنها، فهي تعرفه وتعرف عقلها الباطن في كل تجربة كتابة وحرف. تلتفتُ للشاي الذي برد، واختلط بنسيم الوَحدة وجو الغرفة المُوحش... تُدقق النظر في غرفتها، وكأنها أكبر من حجمها الطبيعي، لتعود في الأخير إلى الورقة، وتبدأ تقرأ، ثم تتوقف، ثم تتابع... وما هي إلا لحظات حتى تنهار في مقعدها، وتسقط على الأرض مُمدة، باكية، مُتورمة، مُنتقعة... إنها تبكي وتندب حظ حرفها العاثر. لقد أيقنتْ أخيرا أن حربها ضد الألم الدفين لا ينجح عن طريق الحرف، بل يتحول إلى انكسارات، لأن أبجديتها حليفة لتلك الآلام تحت وصاية سلطة قلبية، توظّف قسوة الواو، وأنوثة التاء، وعهر النون، وتمرّد المؤنثات، في ميدان الورقة الضيق المساحة الواسع الأثر.

أدركتْ أخيرا أنها تعيش لعبة لا واعية وغير مُدرَكةٍ في مُدْرَكاتها، وكأنها دمية في يد الأبجدية. تضحك على حالها وغباوة زمانها، وفي ذات اللحظة تخاطب واقعا عربيا تعيشه: 

-آه آه؟؟؟ فهمتُ لِم نحن العرب نمتلك قدرة على التوحّد في البكاء والندب واللطم؟؟؟ 

-إننا أمة تحترف صناعة الخوف وهدر الدم؟؟؟

في غمرة الضحك الهستيري، وتداخل الحال العربية، وضياع دموعها بين كل هذا، يناديها صوتها الداخلي؛ طيف حنينها القديم المُتهالك، الذي ضاع بين العرب ومعهم... يُناديها... يُناغيها... يشدُّ على يديها بلطف، ويتناغم مع بِرْكَةِ أفكارها، ويمتزج مع زبد حروفها، فتُكفكف دمعها أمام صوته، رغم أن الحياة سرقته منها، واحتضنته في جوف الأرض، وتركتْ صدرها باردا، يملؤه تنهدات الألم والخوف والوَحدة. فتُعلن عصيانها على اللغة، وتُحطّم تقاليد البوح القديم، وسوار الكلام؛ فتُلغي أنوثة التاء، وعُهر النون، وسطوة الواو، وغطرسة حروف الصفير، وتُهدّم هسهسة الأبجدية الحزينة، مخاطبة ذاتها العميقة:

-هل أقوم بكل هذا الآن؟؟؟

-من أنا؟؟؟ 

-هل أمتلكُ طاقة لكسر طوق الحروف وصفاتها ومعانيها؟؟؟ 

تكتبُ مُتحديةً وقع الحزن، ومرارة الكآبة الخرصى، وجشع الأحزان، وعنجهية البوح القديم. تكتبُ إلى كل ذاكرة تشرّبتْ بحروفها العفنة ملح الألم، فتُحاول أن تغسلها بحروف متجددة على جناح ورقتها الأبيض النديف، لتجعل كروم الحبّ مُورقة فوق مآذن القلوب. 

وفي أخر الحرف تتبصّر أثر كتابتها، فتحسّ أنها متناسقة ومترابطة. تبتهج، ثم تخاطب ألمها، قائلة: 

-أنت الألم وأنا أنثى بأسماء فرحة، فجميع الأفراح والآمال العريضة أسمائي، وإن عريتَ حقائق الحروف، وقضيتَ على بساطة العين، وألغيتَ شاعرية الحاء، فكلّها اليوم جديدة عندي، فالحاء حائي، والسين من اسمي، وصوت الأبجدية شربَ من بِركتي الطِيبة والطبع، والباء جزء من الحبّ، والصاد يَـدُ حنيني القديم، والدال داله ودليلي إلى محبرته.

-كل الحروف من يدي تخرج مُنسابة إلى منازل عشقها، وأركان الرأفة، فاستحالت إلى فرح، وباتتْ قافها قافية جديدة، أثمرتْ حلولا حقيقة، قضت على رمادية السماء، وأضحكتْ العصافير المرتجفة، وأبكتْ سنابل الأرض. ثم تضع قلمها أرضا وكأنه متعب من حرب خاضها، وتتبسم وهي تنظر في الأفق لحبيبها القديم، فتقول له: 

-كنتُ بأحرفي رُوحين حللنا قلما وكتبنا نغما. 

هناك تعليق واحد:

  1. كل الاحترام لشخصك ولكتاباتك التي تثير في داخلي الاعجاب والتقدير لكل مايخطه قلمك.

    ردحذف