سجل إعجابك بصفحتنا على الفيس بوك لتصلك جميع مقالاتنا

بحث فى الموضوعات

الاثنين، 12 نوفمبر 2012

قصة قصيرة: سرادق بوص بقلم/ مروان محمد




-         يلا يا وله يا محمد , لحسن حتأخر علي السوق.
 تخليت في حنق عن مشاكسة القطة أسفل الكنبة بفردة حذائي اليمني , وهي تموء بصوت يتوعدني و ترفع قدمها اليمني الأمامية لتخوفني, انتعلت حذائي وأسرعت إليها وجسدها قد أندس في ملابس سوداء قاتمة.
 تحاشيت النظر إلي عينيها الغاضبتين ,أمسكت بيدي وأغلقت الباب , في ثوان تلقفنا الزقاق الضيق لتنثر هي السلامات والإبتسامات علي من تمر من نسوة تتكئ علي حواف نوافذهن أو أصحاب الدكاكين ,ألقانا الزقاق الضيق إلي شارع الترام ,رأيت الترام الخشبي يتهادي فوق القضبان حتي توقف ,تذكرت أن عمي كان يردد كثيرا أنه يود لو يشعل النار في هذا الترام ولا أعرف لماذا؟
-  أحنا رايحين عند خالتي حسنين؟
 - حسنية يا قليل الأدب.
دائما ما يقابل لساني أسم حسنية بامتعاض لذا دأبت علي تصحيحه, ليس لأنها أقرب إلي الذكورة من الأنوثة في شكلها ولكني أري ضرورة لتصحيح الأسم وحسبي ذلك.
-  أحنا هنروح عند العفاريت تاني يا أما.
جذبتني من ذراعي اليمني في قوة لتعبر بي الطريق متجهة إلي سوق محطة مصر , خالتي حسنين تزوجت من رجل أسمه عبده الزنجيري وهذا لأنه أسود كالفحم ويدعون خالتي بأم فتحي علي الرغم من أنها لم تنجب غير فتاتان أحداهما سوداء والأخري بيضاء , وأبنتها البيضاء لا تفارق أنفي رائحتها الكريهة القريبة من رائحة الدجاج الأبيض .
و زوج خالتي كان ينفطر قلبه حزنا وحسرة لما كانت تنفقه خالتي من أموال طائلة علي أعمال الدجل و الحجاب ودائما ما يذكر أنها لو أدخرت هذه النقود لكان من الممكن أن يشتري أحدى عمائر العطارين التي كان يسكنها الأجانب ….
يمصمص شفتيه ويرنو للصمت للحظات و….
"هيييه"…..
تلك التنهيدة ختام لحديثه حول هذا الموضوع .
تنتقل أمي بين عربات الخضراوات في السوق تتفحص الخضروات بعين مدققة وتجادل البائع وهما يتبادلان كلمات سريعة تنتهي أما بمغادرته أو بالشراء منه وسمعت من جدتي ذات مرة أن خالتي حسنين وهي صغيرة هوت من البلكونة بالدور الثاني فسقطت فوق رأس إمرأة جلست للتو علي مقعد خشبي فوق الرصيف تلتقط أنفاسها , أصيبت خالتي بردود وكدمات بسيطة بينما نقلت المرأة للمستشفي لأصابتها بارتجاج في المخ !!
أحاول أن أركل قطة صغيرة تقف أسفل عربة خضار ولكن جذبة قوية من يدي اليمني تثنيني عن هذا الفعل, رأيتها تبتاع أنواع عجيبة من الخضار لم ألحظها من قبل علي الرغم من وجودها الدائم في السوق ربما لأنها خاصة بأعمال الدجل .
 - اشمعني العفاريت بتأذي خالتي حسنين بس.
-  قولتلك حسنية يا قليل الأدب.
أحاديث مبتورة غير مكترثة بأي شئ أو حتي موجهة لشئ ولكنها أحاديث فقط تسمعها بين البائعين ,سرعان ما ينبتر الحديث بينهم لدي انشغالهم بالزبائن ولم يفوتني هاتين الساقين الجميلتين لسيدة تمسك سلة صغيرة في يمناها, ساقيها يتحركان في رشاقة بين الباعة حتي تهادت إلي جواري فهنئت نفسي بنظرة متفحصة ورفعت عيناي لجسدها الذي بدى كبيرا بعض الشئ يستقر في آخره عينين جميلتين تجبرني علي الإبتسام.
جذبتني أمي مرة أخري ورائها , توقفت عند العطار تبتاع مساحيق حمراء وصفراء وبيضاء ألوانها كلها زاهية و
-  الحساب كام يا خويا؟
 - بسم الله الرحمن الرحيم .. الحساب , أممم … كله علي بعضه يعمل 50 قرش.
تلتقط بوكها الصغير وهي ترفعه بحبل أوستيك من داخل صدرها , تفتحه , تناول العطار نقوده و تجذبني مرة أخري ورائها متجهة إلي بائع اخر.
- عايزة أربع أرانب وديك حرايري.
- الديك الحرايري غالي يا ست , ده بجيني.
تحاشيت النظر إلي الدجاج الأبيض لأنه يذكرني ببنت خالتي البيضاء , سعد بائع الدجاج يعشق جمال عبد الناصر لذلك علق له أكثر من عشرين صورة فوتوغرافية في أوضاع مختلفة له جمعها من جرائد متعددة.
- يا أما هو الريس يعرف أن خالتي حسنين بتكلم العفاريت !
 - ياوله حسنية ,,, أنت إيه حكايتك؟
للمرة الثانية أري ساقي المرأة الجميلتين يسيران ويتوقفا لصيقا بي فأرفع عينين فرحتين فأجدها تداعبني بحركات من أنفها , أفعل معها المثل فتضحك وتطبطب علي شعري بأناملها الرقيقة ليغمرني شعور بالبرودة يجتاح عروقي دفعة واحدة .
كان لابد أن أحول قراري من حالة التمني إلي حالة التنفيذ , فلامست الأرض برأسي أحاول أن اختلس النظر إلي داخل فستانها ولكن الظلام الداخلي حال دون تحقيق أمنيتي .
-         وله يا محمد … بتعمل إيه يا مهبب؟
انتصبت واقفا فوجدت المرأة منشغلة بتفحص الدجاج التي يناولها لها عم سعد .
- ولا حاجة , كنت بهرش قرصة في رجلي!
مددت لها يدي كمحاولة لتفادي المزيد من الاستطراد وأكملنا السير ونفس اليد التي تقودني تمسك بالديك الحراري من قدميه وقد تدلي رأسه للأسفل , كنت أرمقه في استغراب فأخاله ينظر لي من أسفل متأففا , يدها الأخري تمسك قفص الأرانب وكيس الخضراوات ,أنفاسها تتلاحق في سرعة … أسمع صوت أنفاسها المنهكة جليا .
-  أنا عايز بوظة
- ............
- بقولك أنا عايز بوظة
ركبنا الترام الخشبي الذي يود أن يشعل عمي النيران به حتي وصلنا إلي محطة القباري ,نزلنا متجهين إلي اليسار حيث يقف بمحاذاة خط الترام شريط من البيوت ذات الطابق الواحد وخلفها تستقر عشرات من بوابير القطن , في ذلك الوقت من العصرية يخلو هذا الطريق الواسع الطويل من أي عاملين أو مارة … وقد اصطفت علي جانبي الطريق مستودعات القطن الضخمة وعلي ذلك الطريق يعبث هواء العصرية بنتف القطن المتناثرة في كل اتجاه… حاولت أن أشارك الهواء عبثه بأحد نتف القطن التي مرت محمولة علي نسمة هواء رقيقة ولكن شدة قوية من يد أمي تفرملني عن رغبتي.
**********************************
-  هيا ليه العفاريت بتاذي أمكم بس؟
أطلت الحيرة من وجه الفتاتان ولم يجيبا , ران الصمت للحظات بيننا حتي أردفت :
- طب ليه أنت سوداء وأنت بيضة؟
تبادلا النظر الصامت وسددا لي بعدها نظرة بلهاء .
- وله يا محمد مش تسلم عليا؟
لوحت بكفي الأيسر وقد وقفت هي في الممر الضيق لشقتها, هذا الممر يطل مباشرة علي بسطة السلم التي كنا نجلس عليها ثلاثتنا .
- حتيجي معانا النهاردة يا وله.
لم أكلف نفسي عناء الرد عليها وتشاغلت هي بنداء جدتي لها لتشاركهما ما أنخرطا في صنعه بالمطبخ ,بينما الديك الحراري مستلقي رغما عنه علي جانبه الأيمن موثوق القدمين بقطعة قماش ملوثة و إلي جانبه قفص الأرانب.
**************************************
-          أمسك أخواتك البنات يا محمد عشان حنعدي.
أمسكت بيد زينب ولم أشاء أن أمسك بيد الأخري التي هتفت في غضب :
- هي زينب أحلي مني , أشمعني هي, دنا حتي بيضة.
كانت زينب تؤثر الصمت التام كأنها لا تشاركنا هذا الوجود ولكن عينيها البراقتين دائما مشغولتين بعالم آخر لا يدركه أحد , نادت جدتي علي الأخري لتمسك بيدها ويتحرك الموكب النسائي لنعبر خط السكة الحديد وقلبي يخفق ملتاعا خشية أن يداهمنا القطار في أي لحظة!!, وصلنا إلي جامع سيدي القباري , دورنا حوله حتي وقفنا خلفه لأجد سرادق بوص هائل, دلفنا إليه من باب صغير كان مواربا .
كلما ذهبت إلي خالتي حسنين تقص علينا بصوت ضاحك حكاية والدي زوجها اللذان لقيا حتفهما في وقت واحد وذلك عندما ألحت أم زوجها في طلب ما من أبيه فأمسكها بذراعيه القويين وحملها فوق رأسه و من ثم أفلتها ولكنها بأعجوبة ربانية استطاعت أن تتعلق بذراعيه فلم يحتمل سور الشرفة ثقلهما و هوي بهما من الطابق الثاني ليلقيا حتفهما علي الفور!, تقص هذا الحدث وتنخرط في نوبة ضحك طويلة بينما يسود الصمت لثوان قبل أن تواصل ضحكاتها المبتورة قائلة :
- حعمل أيه ماهي الحكاية تضحك قوي!
عندما ولجنا إلي سرادق البوص وجدته ممتلئا بنساء آخريات متشحات هن أيضا بالسواد يجلسن إلي جانب , وأطفالهن يتخذون ركنا في ذلك السرادق قد حشروا إليه .
استقبلت إمرأتان أمي و جدتي و خالتي بالترحاب وهما يتناولان منهن قفص الأرانب والديك الحرايري ,حرصت علي أن أجلس علي مسافة بعيدة من هؤلاء الأطفال الباكين المشاكسين المستمتعين بلعق مخاطهم , زحفت نحوي زينب حتي التصقت بي.
- هما حيخرجوا العفاريت من أمي يا محمد.
خرج صوتها ضعيفا خافتا فهززت راسي دون أن أعلق , أطلقت أحدي المرأتين ثلاث ارانب من القفص , وفكت وثاق الديك الحرايري ليركضوا طائعين كأن بهما مس نحو فتحة صغيرة جانب السرادق ليبتلعهم مربع الضوء هذا.
بينما الأرنب الباقي تناولته زميلتها وبسملت ثم ذبحته وتركته يتلوي في عنف , يقاوم انتزاع روحه غصبا .بدماء الأرنب المذبوح لوثت المرأتان أكفهم وفي مناحي شتي بمعطف خالتي الأبيض طبعوا أكفهم وبعض من نسوة آخريات يدقون لها الدفوف.
-         مسكين الأرنب ده.
قالتها بصوتها الضعيف الخافت فأدرت رأسي اتأملها بأشفاق في حين أن الأخري انشغلت بقرص أحد الأطفال في مؤخرته لينفجر صراخه عاليا ولكنه أبدا لا يغلب به علي صوت دق الدفوف….
أرضيه السرادق عبارة عن حصيرة رملية تم بسطها دون أن تكون هناك نتوءات بارزة أو أي أعوجاج ولو حتي قليل ألا من حفرة متوسطة العمق في منتصف المكان صب فيه شئ بدي أشبه بالجيلي تختلف ألوانه بين الأحمر والأصفر ومنها الشفاف …. أحيطت حواف الحفرة بشموع مقادة تم غرسها في الرمال وأخذوا يمرروا فوقها خالتي التي بدت تائهة …. لقد تفصد عن جبينها عرق غزير وأهدابها ترتعش بشدة وشفتاها تتحركان في عصبية.
اتخذت أمي مكانا يتلون ببعض الظلام والنور وقد أسندت ظهرها الصارخ بالألم إلي الحائط وغفلت للحظة, وجدتي قد أمسكت بأحد الدفوف تشارك النسوة هتافاتهن ودق الدفوف.
ثمه صرصار يمر من أمامي تتعثر خطواته في الحصي ثم يعود ليكمل سيره ويحرك شاربيه في كل اتجاه , أخت زينب ناولت أحد الصبية قفا قوي لينتفض فزعا ثم يصرخ , وجدت نفسي في ذات الوقت أمنح زينب قبلة دافئة علي خدها الأيسر وقد مال رأسها إلي الخلف قليلا وغفوة ماكرة قد احتالت علي عينيها .



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق