تتميز هذه القصة عند النظر إلى الطابع المسيطر عليها بالانتماء المكاني القوي الظاهر في كل مقطع بها .. إنه يمكن القول ببساطة أنها قصة ذات سمة عراقية بكل ما تحمله الكلمة من معان، فيلاحظ المتلقي ان أحداث هذه القصة تدور في العاصمة العراقية العريقة – بغداد ، وما أن يبدأ المتلقي بالقراءة وسط الجو الغريب الذي يزج به زجا لمواصلة القراءة محاولا التعرف على ما الذي يجري في بداية القصة حتى يفاجأ ببعض الأسماء العراقية الشهيرة في التاريخ العباسي ،مثل : أبي نؤاس الشاعر البغداداي العباسي ، وأبي جعفر المنصور الخليفة العباسي المؤسس لمدينة بغداد ، ويفاجأ بهذا الحوار الغريب بين الشخصيتين رغم عدم إلتقائهما في الواقع.
وغير هذه الأحداث وهذه الأسماء ، يجد المتلقي بعض الأسماء من الأساطير العراقية القديمة :
" (( إذا كنت قد وجدت تمثال رأسي مهشما ً ، فأبحث عن الفأس التي غرسها كلكامش في عنق خمبابا وحش غابة الأرز ، قبل أن يُفتَح َ باب ٌ من أبواب الجحيم ويُنزل على هذه الأرض وحشا ً أعتى منه ، أو من ثور عشتار المجنح ، أو من كلب مردوخ الأعور ذي الرؤوس الثلاثة ، حارس بوابات الجحيم .. لا تتوجل " .. ف ( كلكامش – خمبابا – غابة الأرز – عشتار – الثور المجنح – كلب مردوخ ) كلها أسماء مرتبطة بالأساطير القديمة مما قد يشي لدى المتلقي بوجود جو من المستحيلات كالذي تدور حوله القصة .. العودة والتنقل في الزمن وكلام التماثيل وفكرة الشجرة الخبيثة وبذورها
وبالنظر إلى هاتين الحقبتين المتباعدتين ( الأساطير - التاريخ العباسي ) يدرك المتلقي بسهولة أن ثمة رجوع إلى الأصل والمجد العريق سيتم تناوله في الطريق ولكن تبدأ هذه الفكرة تتكسر وتتناثر على جنبات الرصيف جنبا إلى جنب مع تمثال أبي جعفر المنصور المهشم في فبراير 2003 - عام الغزو الأمريكي للعراق
وبالتالي يلاحظ أن الكاتب قد استطاع في هذه القصة ربط أزمنة وأحقاب مختلفة ( ماض أسطوري سحيق – ماض تاريخي عباسي – حاضر أليم يتنبأ به قديما ) في سياق سردي واحد يتماوج بين الاسترجاع والاستباق تبعا لإسلوب الرواية المستخدم ولا شك أن تقنيات الحلم والمونولوج الداخلي وما له من انعكاسات نفسية للشخصية الرئيسة بالقصة – أبي نؤاس كان من عوامل تميز هذا الجانب من القصة على غيره من الجوانب وعكسها للفكرة المهيمنة في هذه السردية .. وهذا ما سيتم تناوله في هذا المقال .
الرؤية الروائية ( وجهة النظر – أسلوب السرد ) :
" صمت ثقيل جاثم على جنبات الرصيف ، والطريق الأسفلتي المتهدل وسط بقايا تمثال تهشمت ملامحه ، جسده يتفصد عرقا ً .. سأجف حتما ً قبل وصولي.. اعتصر واجهة عمامته ليمسح عرقا ً ضايق رؤيته وعاد ليتطلع إلى الملامح المبعثرة عند نهاية الرصيف المهروس"
يلاحظ المتلقي هنا امتزاج كلام الراوي بكلام الشخصية الرئيسة بالقصة في عبارة واحدة ، ويسمى هذا بالأسلوب الحر الغير مباشر فيبدأ النص بالراوي يصف المشهد المكاني ثم تتغير نغمة الكلام فجأة لتدخل الشخصية الرئيسة في المشهد ثم العودة مجددا للراوي ليصف حال هذه الشخصية . ومما هو جدير بالذكر أن الشخصية الرئيسة – أبا نؤاس البغدادي لم يتعرض الكاتب لاسمه بالذكر منذ البداية .. فيظل المتلقي يفكر في ماهية تلك الشخصية التي ألفت منادمة الرشيد واشتهرت بالخلاعة والمجون في الشعر إلى ان يتعرف عليها صراحة بعد ما يقرب من نصف القصة .
ثم ما يلبث أن يعود أسلوب الرواية إلى " الراوي العليم " الذي يتعامل مع الشخصيات كما لو كانت شديدة الشفافية ، ينطلق حرا بلا قيود فيشق صدور الشخصيات ويغوص بداخلها ويطلق الأحكام
".. ذكريات بريئة تتواثب لتنقض على ما بقي في جسده المتعب.. كان يبكي عندما كانت تحكي له قصة لسعتها من قبل عقرب غادر .. لكنه كبر ولا يدري كيف انتقل سم الخوف من مرحلة الطفولة حتى مرحلة النضج."
فهو يعرّف بالشخصية الرئيسة بالقصة فيذكر إحدى الخبرات الشعورية التي اكتسبها أبو نؤاس في حياته ( قصة لدغة العقرب ) وكيف تحولت إلى لاشعورية بسبب عوامل الكبت والنسيان فتتجمع في اللاشعور الشخصي مكونةالعقد ، فها هو ينتفض لمجرد إحساسه بحركة حسيسة تشبه حركة العقرب في خفتها والموت في خفائها ..
ثم ينتقل الكاتب إلى الاسلوب الغير مباشر عن طريق نقل الراوي الكلام المقول بعبارة سردية ليس بها علامة ترقيم ( : ) قبل قليل كان برفقة وزير الديوان ، وأخبرهأن نديمه الرشيد سعيد بصحبته ، وأنه سيسر إليهبشيء لن ينساه طيلة حياته المقبلة .."
ويبدأ السرد في شكل تيار من الوعي بالعودة إلى أحداث قديمة فيما يعرف بالاسترجاع على لسان الراوي والذي يشبه الفلاش باك ( Flash back ) بالسينما فيبدأ يرجع بالزمن لأحداث من الماضي فيتذكر أبو نؤاس مشاهد من طفولته في الكُتّاب وتعنيف شيخه له على إضاعة الحبر وتذكره أيضا لوالده وهو يعمل في الحقل بالفأس
يتلازم ذلك مع عودة تفكير أبي نؤاس إلى الحاضر ليلاحظ التمثال المهشم على جنبات الرصيف ويبدأ في المونولوج وهو حديث الشخصية لنفسها:
.. يالحظك العاثر يا أبا علي، لم تفترش يوما ً وسادة الفرح إلا وداهتمها دموع الكوابيس ، فما شأنك و تلك العربة المذهبة وبما تصطبغ به من ألوان قاحلة ..."
هذا التذبذب في الإحساس بالزمن يعكس مدى لعب الذاكرة الإنسانية في تهميش بعض الأحداث وتضخيم البعض الآخر .. وهو يعكس الحالة النفسية لأبي نواس الذي خرج فجأة من داره ووجد كل شيء حوله قد تغير تماما
تستطيع هذه الأداة الكشف عن أغوار الشخصية خاصة وإن كانت منعزلة أو كشخصية أبي نؤاس قد عرف عنها الخلاعة والمجون لكن كانت تبطن في طياتها شخصية زاهدة تنعى ذنوبها"
أكنت تظن وأنت تتفاجأ برؤية اسمك محفورا ً على حافة التمثال المقصوف ، أنك ستكون شخصاً مرموقا ً في المستقبل
وبعدها تكون العودة النهائية للراوي العليم ... وتكمن أهمية عملية سبر الأغوار هذه في التمهيد لمعرفة ردود فعل تلك الشخصية أمام الحدث الرئيس بالقصة - التقاط الفأس لتحطيم الشجرة الخبيثة التي سيبذرها المغول الجدد
فمنذ البداية .. تتردد كلمة ( الفأس – اجلب الفأس ) متقطعة حتى سمعها مكتملة تهزه كيانه وتصم أذنيه عندها توقف عن الاسترجاع والمونولوج وانتبه إلى تمثال أبي جعفر المنصور الذي يكلمه ويلومه على استهتاره ويطالبه بجلب الفأس لقطع الشجرة ذات البذور " ... بذور الشعوبية التي وصمت بها بعد موتك ، وبذور الاباحية والزندقة .. لقد جاء العابرون من وراء الشفق ليعيدوا احياءها ويغذونها بكل ما اعتمل في جوارحهم ، من كراهية وحقد ، حتى يَسِموا أولاد هذه الأرض بأختام النخاسة على جباههم بحجة أنها (( حرية لديمقراطية موعودة ))"
ويبدأ ظهور ذلك الجانب من التخبط في شخصية أبي نؤاس فلا يدري أين هو الفأس ولا يفهم كلام الناس حوله ولا أدواتهم ولا مركباتهم ( الدبابات ) فيكون أشبه بالتائه ، لكن ينشغل عقله بأمر جاريته الحبلى وتبدأ الأحداث تبدو شبه مبتورة
لتجيء رواية تكملة النص - في النصف الثاني -على لسان شهرزاد والتي تدعم العنوان " من حكايات الليلة الثانية بعد الألف " إنها قصة لم ترو من قبل فالمعروف عن الكتاب أنه " ألف ليلة وليلة " لكن هذه قصة لم ترو من قبل
وبقراءة هذا الجزء تتكشف خبايا النص ، فيظهر ان الجزء الأول من النص ما هو إلا ...
"- { بلغني أيها الملك السعيد ذو الرأي الرشيد } أن أبا نؤاس الشاعر رأى في منامه أنه واقف بجانب عربة مكتوب عليها لافتة (( كليري )) القدر، وأطلع على لوحة في الغيب لبغداد ..درة المنصور وجوهرة الرشيد مكتوب عليها غورنيكا بغدادية ولاحظ مافيها من تفاصيل مؤلمة وألوان غامقة فقام مفزوعا ً وشرع يلبس ثيابه ... "
فما قد رآه أبو نواس في الجزء الأول من النص هو كابوس أطلع فيه على مستقبل مؤلم لبغداد تصوره لوحة بيكاسو ( جورنيكا ) Guernica التي تصور أهوال الحروب وآلامها
لقد كان النصف الأول من النص استباقا ( احداث مستقبلية ) في صورة كابوس لأحداث ستحدث بالمستقبل رآها أبو نواس ولا شك أن الحلم وسيلة من وسائل تشويق المتلقي يحثه على التفكير برمزيته ووسيلة للتحرر من الزمن الواقعي
ثم انطلق ليخبر صاحبه الرشيد بما رأى ... "فأنبرى ليبحث عن قصر سيده في وسط الدخان والسنة اللهب المتصاعد من كل مكان ، وها هو يصول ويجول بحثا ً وتمحيصا ً حتى وصل الى شارع أبي نؤاس ووجد تمثالا ً مقصوفا ً ..."
فكل شيء حوله قد تغير تماما في الواقع .. وهذا لم يعد حلما ، فما يلبث إلا أن يصطدم برأس تمثال كبير مكتوب عليه :
"إذا كنت قد وجدت تمثال رأسي مهشما ً ، فأبحث عن الفأس التي غرسها كلكامش في عنق خمبابا وحش غابة الأرز ، قبل أن يُفتَح َ باب ٌ من أبواب الجحيم ويُنزل على هذه الأرض وحشا ً أعتى منه ، أو من ثور عشتار المجنح ، أو من كلب مردوخ الأعور ذي الرؤوس الثلاثة ، حارس بوابات الجحيم .. "
وهذه الجملة المحورية وردت في النص مرتين إلا أن كل مرة كان لها وقع مختلف على أبي نؤاس وتبين اختلاف الزمن الماضية فيه الأحداث ..
ففي المرة الأولى " اندهش قليلا ً من عمق ما تفصح به هذه الكلماتالغريبة ، حتى اهتزت يده وأسقطت ما تحمله على بقايا فم التمثال القاحلة ... فتح فمه قليلا ً ليتقيأ جزءاً من بخار الكلمات الصادحة بلعاب ما صادفه من متناقضات" لقد كان هذا في الحلم لما رآه أول مرة
أما في المرة الثانية " حتى عثر على كتابة تعرف عليها حالما رآها " هنا هذا هو الواقع لأنها صارت له مألوفة بعد الحلم .. وكانت كلمات التمثال "واذا بفم التمثال ينطق ويقول ، أسرع يا أبا نؤاس قبل أن يهشموا مدينتي وعاصمة ملكي مثلما هشموا تمثالي .. أما زلت هنا .. أسرع قبل فوات الأوان"
وكان في حلمه أنه قلق على جاريته الحبلى .. فكان في الواقع :
" انطلق أبو نؤاس غير مبال ٍ بالجمع الزاحف نحوه ، وهرع يضرب هنا وهناك على اللحاءات المكسوة بلعاب بارودي أسود ، والجمع يتقدم نحوه ... وبينما هم في غفلتهم ، اهتزت الشجرة ولمع برق نازف من مجاهيل الغيب ... فأرتبك الجمع وانفض ُ وأبو نؤأس يضرب هنا وهناك حتى سقط عليه الجذع المنتصب ..

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق