" من لبنان"
أركان الإسلام بين الكهانة والديانة- الحلقة الخامسة
صلاة الكهانة :
صلاة الكهانة تدعوك لأداء أعمال الصلاة كطقس يوميّ يرتبط بحياة المسلم، فهي فرض يثاب فاعله ويعاقب تاركه، وحتّى تؤدِّيَ هذا الفرض لا بد أن تعرف أركان الصلاة وشروط صحّتها ومبطلاتِها، ثمّ بعد ذلك فالأفضل أيضاً أن تعرف سننها وهيئاتِها ومكروهاتِها، هذا كلّ ما عليك أن تعرفه وتؤدِّيَه لتكون صلاتك مقبولة عند الله سبحانه. وكم قامت حلقاتٌ ودروس فقه في المساجد والمعاهد والحوزات والجامعات، تُدَرِّس أحكام الصلاة دون أن تقدِّم صلاةً تحرِّك الإنسان والأمّة نحو التكامل والارتقاء، وتوجّهها لتقود العالم نحو خلاصه وكماله وسعادته ..
صلاة الكهانة تُزَوِّر مفهوم حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهَرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ، يَغْتَسِلُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسًا، مَا تَقُولُ ذَلِكَ يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ؟» قَالُوا لاَ يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ شَيْئًا. قَالَ: «فَذَلِكَ مِثْلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، يَمْحُو اللَّهُ بِهَا الْخَطَايَا» [البخاري والنسائي وابن ماجه وأحمد وهو في من لا يحضره الفقيه باختلاف يسير] فتُصَوِّرُ الصلاة كممحاة يوميّة تمحو خطايا الإنسان، ولذلك فمهما علق بدين الإنسان من درن الذنوب والخطايا، فإنّ ممحاة الصلاة لن تبقي على شيء منها، من هنا لا يجد الطاغية والعميل والجاسوس والخائن تناقضاً بين صلاته وبين طغيانه وخيانته وعمالته، بل على العكس من ذلك إنّه يرى في صلاته تكفيراً عن جرائمه، ولا يدرك أنّ صلاته هذه مضروبة في وجهه يوم القيامة، وأنّ صلاته التي لا تنهاه عن الخيانة تصبح ذنباً يضاف إلى ذنوبه الأخرى، قال صلى الله عليه وآله وسلم: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد بصلاته من الله إلا بُعْداً» [بحار الأنوار للمجلسي والمعجم الكبير للطبراني]
صلاة الديانة :
وقبل أن نبدأ بِتَدَبُّرِ تفاصيل الصلاة نقف قليلاً عند لفظ "الصلاة": فجَذْرُ هذا اللفظ هو الصاد واللام والياء، وهو يدلّ على اللزوم والإقبال الكلّيّ، ومنه جاء معنى الدعاء للصلاة، ومنه حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا دُعِيَ أحدكم إلى طعام فليجب، فان كان مفطراً فليأكلْ، وإن كان صائماً فليصلِّ» [صحيح مسلم وبحار الأنوار للمجلسي] أي فليَدْعُ لأصحاب الطعام؛ والدعاء لا يسمّى صلاة إلا إذا كان فيه إقبال كلِّيٌّ من الداعي. ومنه أيضاً معنى اللزوم كقولك صَلَى النار يصلاها إذا لزمها بكلّيّته، وصلَّيت العود بالنار إذا عرَّضه لصِلاء النار حتى يلين ويستقيم [معجم المقاييس لابن فارس]. إذاً فاختيار اسم الصلاة لهذه العبادة له مدلولاته وإشاراته الواضحة: إنّها إقبال من الإنسان بكلّيّته على الله سبحانه، إقبال على مستوى العبادة الفردية، وإقبال على مستوى الدولة والمجتمع.. إقبال بالكلّيّة.. وهي لزوم كلِّيٌّ لجانب الله سبحانه ولجانب أوليائه المصلّين (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ)[المدّثّر] ولزوم كلِّيٌّ لأمر الله ولرسالته، وهي احتراق بحرقة العشق والتوق للكمال. يقول العلامة إبراهيم بن عمر البقاعي في تفسيره نظم الدرر: «الصلاة الإقبال بالكلّيّة على أمر، فتكون من الأعلى عطفاً شاملاً، ومن الأدنى وفاء بأنحاء التذلّل والإقبال بالكلّيّة على التلقّي».
استضعاف الإنسان واحتكار الإنتاج.. مبطل للصلاة:
بِهذا المعنى نفهم كيف يكون تضييع الصلاة (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا)[مريم59] فالإضاعة لا تكون إلا لشيء موجود قبل الإضاعة، فمعنى إضاعة الصلاة لا ينحصر في من تركها أو تكاسل عنها، بل مِن أخطر مصاديق تضييع الصلاة هو تضييع معانيها الرساليّة (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ)[الماعون] فالآيات هنا تُهدِّد بالويل للساهين عن الصلاة، وتصفهم بأنَّهم مصلُّون، فاسم الفاعل "المُصَلِّين" يدلُّ على اتِّصافهم بفعل الصلاة، ولذلك جاء الضمير العائد إليهم مُتَّصلاً بالصلاة "صلاتِهم" لهم صلاةٌ ولكنّها صلاة كهنوتيَّة طقسيَّة، صلاة حركات وألفاظ، بينما عقلهم وقلبهم ساهٍ عن مفاهيمها وقيمها، ويل للمصلّين إذا لم تغرس فيهم الصلاةُ عمقَ الشعور الإنسانيّ.. إن الذي لا يُحِسُّ بألم الإنسان، فيطرد اليتيم ولا يحضُّ على طعام المسكين، ولا يشعر بألم الجوع إلا إذا عضَّ مَعِدته، ولا ينتفض لآلام الجياع في العالم، ولا يثور ضد الرأسماليَّة والاحتكار، ولا يسعى لإسقاط العولمة ونظام عيش الأغنياء على حساب جُهْدِ وجوع وعَرَق الفقراء، هذا الإنسان تصبح صلاتُهُ رياءً (الذين هم يراؤون) والدليل على رياء صلاتِهم أنّهم يمنعون الماعون، والماعون كما في معجم الصحاح للجوهريّ «كل منفعة وعطيّة»، وفي أنيس الفقهاء للقونوي: «الماعون ما هو عون لأخيه في حوائجه» فالذين يحتكرون المنفعة وأدوات الإنتاج، والذين يُكَرِّسون هذا النظام الاحتكاريَّ، ولا يحضُّون على تغييره، ولا يعملون لإنقاذ العالم من قيم النفعيَّة، ويرضَوْن أن يكونوا خدماً لمشاريع الرأسماليَّة المتوحِّشة، والذين يساعدون أمريكا في محاصرتِها ومنعها التكنولوجيا النوويّة عن الشعوب المستضعفة (لأنّه بحسب المعاني اللغوية لكلمة "ماعون" فإنّ منع التكنولوجيا النووية يدخل ضمن منع الماعون) هؤلاء جميعاً مراؤون في صلاتِهم، ولن يُحَصِّلوا من صلاتِهم إلا مزيداً من الويل.. في بحار الأنوار للمجلسي أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا صلاة لمن لم يطع الصلاة وطاعة الصلاة أن تنهى عن الفحشاء والمنكر»، وكذلك أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قيل له: إن فلاناً يطيل الصلاة. قال: إن الصلاة لا تنفع إلا من أطاعها، ثم قرأ (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر).. ولذلك أنكر قومُ شعيبٍ (ع) عليه صلاته، لأنهم رأوا فيها ثورة ضدّ قيمهم الموروثة، وضدّ ثقافتهم وعقائدهم، ورأوا فيها تقييداً لرأسماليّتهم الجشعة، وتقييداً لحريّة التملّك والتصرّف بالمال على حساب جوع الفقراء (قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ)[هود87] ولذلك كان رسول الله محمّد صلى الله عليه وآله وسلم يتعوّذ بالله من صلاة لا تنفع «اللهم إني أعوذ بك من نفس لا تشبع، وأعوذ بك من صلاة لا تنفع، وأعوذ بك من دعاء لا يسمع، وأعوذ بك من قلب لا يخشع» [سنن أبي داود وصحيح ابن حبان وبحار الأنوار والكافي] وبهذا المعنى وردت أحاديث عدّة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن العبد لَيُصلّي الصلاة لا يُكتب له سدسها ولا عشرها، وإنما يكتب للعبد من صلاته ما عقل منها» [أحمد والنسائي وأبو داود وبحار الأنوار] فالصلاة تَهدف إلى زرع قيمٍ ومفاهيمَ، ولا يكتب للإنسان من صلاته إلا بمقدار ما يعي عقله من قيمها ومفاهيمها. «ركعتان مقتصدتان في تفكّر، خير من قيام ليلة والقلب ساه» [بحار الأنوار وكنز العمال وابن أبي الدنيا] «تَفَكُّرُ ساعةٍ خيرٌ من قيام ليلة» [الفصول المهمة وبحار الأنوار والكافي والزهد لابن حنبل وشعب الإيمان للبيهقي] «كم من قائم ليس له من قيامه إلا السهر والعناء» [مسند أحمد ومستدرك الوسائل للنوري الطبرسي] «أَسْوَأُ النَّاسِ سَرِقَةً الَّذِى يَسْرِقُ مِنْ صَلاَتِهِ» [صحيح الحاكم ومسند أحمد وبحار الأنوار ووسائل الشيعة] وغير ذلك من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى:
لقد نَهى القرآن المؤمنين -قبل تحريم الخمرة- أن يقربوا الصلاة وهم سكارى، وعلّة ذلك أنّهم لا يعلمون ما يقولون (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ)[النساء43] فالقضيّة ليست متعلّقة بالسكر حتّى تسقط بسقوطه، بل هي متعلقة بإدراك معاني الصلاة وقيمها ومفاهيمها وأبعادها، فلا معنى لأن يقرب الإنسان الصلاة إذا لم يعِ أبعادها (حتى تعلموا ما تقولون) في العلل لمحمد بن علي بن إبراهيم قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام:«من لم يعرف تأويل الصلاة فصلاته خداج» [بحار الأنوار]. ولذلك إذا قرأنا الآيتين قبل هذه الآية قد يتّضح هذا المعنى أكثر (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ)[النساء] فكأنّ الآياتِ تقول للمؤمنين: لا يغرَّنَّكم ما عليه الكافرون والعصاة من سلطة ومال وتَقَلُّبٍ في البلاد، ولا تشعروا بأدنى نقص تجاههم، لأنّهم في نِهاية المطاف سيعيشون أقسى مرارات الندم، وحتى تحتفظوا بوضوح الرؤية من خلال مقاييسكم الإيمانيّة عليكم أن تَعُوا ما تقولون في الصلاة، وأن تعيشوا هذه المعانِيَ في الحياة، وعليكم أن تجتنبوا أيَّ سكر يُضْعِفُ في وَعْيِكم معانِيَ الصلاة، فلا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى بأيِّ أنواع السكر، سواء السكر بشرب الخمرة أو سواها من المسكرات أو السكر بحبِّ الدنيا أو السكر بالمصالح الأنانيّة أو السكر بالحرص على رضى الطواغيت أو السكر بالعصبيّة القوميّة أو الطائفيّة أو المذهبيّة... لأن القضيّة ليست قضيّة السكر هنا، بل القضيّة قضيّةُ وَعْيِ ما تقولون في صلاتكم. ثمّ إنّ الآية لم تذكر السكر من الخمرة، ولا دليل على حصر معناها في السكر من الخمرة، كما إنّ "السكر" في اللغة يشمل كلّ ما يضعف قدرة الإنسان على العقل والتدبّر «السكر غفلة تعرض لغلبة السرور على النفس بمباشرة ما يوجبها» [التوقيف على مهمات التعاريف للمناوي] «السكر الإغلاق هو يعم الإكراه والغضب والجنون وكل أمر يغلق على صاحبه علمه» [الكلّيّات لأبي البقاء] «السين والكاف والراء أصلٌ واحدٌ يدلُّ على حَيرة. من ذلك السُّكْر من الشراب. يقال سَكِر سُكْراً، ورجلٌ سِكِّير، أي كثير السُّكْر. والتَّسْكير: التَّحيير في قوله عزَّ وجل: (لَقَالُوا إنَّما سُكِّرَتْ أَبْصَارُنا)» [معجم المقاييس لابن فارس]، وقد استعمل القرآن في عدّة آيات "السكر" بغير معنى سكر الخمرة (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ)[الحجر72] (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ)[الحج2] (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ)[ق19].
والأصل في الصلاة أنّها تُقام لذكر الله سبحانه (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي)[طه14] (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[العنكبوت45]، والذكر ليس عملاً لسانيّاً بل هو عمل ذهنِيّ قلبِيّ، فالذكر لا يقابله الصمت في معناه اللغويّ، وإنما يقابله الغفلة والنسيان، فمُهِمّة الصلاة الأساس أن يذكر الإنسان الله سبحانه، وأن يبقى موصولاً به في زحمة الحياة الدنيا وفي ضجيجها وعجيجها، فإذا تراءى الطغيان أمامه مختالاً بقوَّته، أو حاول أن يحاربه في رزقه تذكَّرَ أن الله هو الرزّاق ذو القوة المتين، فَعَقَدَ العزم ألا يخاف من مخلوق لا حول ولا قوة له، وأن يطلب رزقه في أرض الرزّاق الواسعة، فذِكْرُ الله سبحانه يمنح الإنسان الطاقة والقوّة والإرادة والعزيمة والصبر والفطنة والذكاء والوعي والسمو...
في الحلقة القادمة: الصلاة وقود من أجل الحركة - اسجد لتتمرد - الصلاة.. مشروع للوحدة.. والتحرير