سجل إعجابك بصفحتنا على الفيس بوك لتصلك جميع مقالاتنا

بحث فى الموضوعات

السبت، 3 أغسطس 2013

القصة القصيرة: رتوش من صفحات حزينة - مروان محمد بقلم/ مروان محمد



(1)

عند مدخل الشارع الى يسكن فيه عاطف غادر مجدى سيارته الصغيرة, و قد رسمت شفتى مجدى ابتسامة ترحيب, أقبل نحوه عاطف مطرق الرأس, شارد النظرات, مرهق الملامح فاستوقفه قائلا:

- كيف حالك يا أستاذ عاطف؟

- الحمد لله.

- المدام الأن فى الشهر التاسع.

لم يستوعب عاطف فى بادىء الأمر عن أى مدام يتحدث هذا الرجل, حتى قال مجدى موضحا و هو يشير إلى نفسه:

- أقصد المدام ... زوجتى !!

- آه... مبروك.

- مع أننا اتفقنا على أن نؤجل الأمر لفترة من الوقت ألا أنه النصيب.

فشل عقل عاطف المرهق فى العثور على رد مناسب فأكتفى بشبح ابتسامة, صافح بعدها الرجل ثم مضى إلى باب البيت فابتلعته ظلمة مدخل البيت.

لم يفته أن يلقى نظرة عابرة من نافذة المنور على ثمرات البصل المتكوم إلى جانب و قد نبتت فى كل ثمرة عيدان خضرا و بدى و كأنها مغسولة جيدا بمياه الأمطار.

لقد سقطت هذه الثمرات من الحقيبة القماشية المعلقة إلى نافذة فوزية , تلك المرأة الملطقة.

(2)

- هل أصنع لك كوب من الشاى معى يا عم حسنى؟

- يا ريت يا عاطف.

سار عاطف بخطوات سريعة للموقد الصغير الموضوع على مائدة صغيرة ذات لون أخضر كالح, التقط من رف خشبى كوبين زجاجين لامعين, وضع البراد الأزرق الصغير أيضا فوق نيران الموقد الحمراء المتراقصة.

أحكم عم حسنى لف الكوفيه حول رقبته و مصمص شفتيه فى صمت, و قد دفن صلعته فى طاقية من الصوف تبث الدفء إلى كل جسده.

- ماذا ستفعل فى موضوع الشقة يا عاطف؟

أطفىء عاطف الموقد و صب الشاى فى الكوبين و هو يجيب بصوت عالى:

- لا أعلم, هل لديك أقتراح معين؟

- لا و الله يا عاطف غير أنى أدعو لك بالخير.

وصل عاطف إليه ليناوله كوب الشاى, و جلس على المقعد المجاور, ارتعش ضوء النيون الأبيض لثوان ثم غرقالمكان فى الظلام, قال عم حسنى:

- على العموم عملت حسابى, هناك أستارتر جديد فى درج المكتب و مصباح يدوى, قم بتركيبه يا عاطف.

غادره عاطف بينما يعيد عم حسنى أحكام الكوفيه حول عنقه, أعقبها برشفة من كوب الشاى.

(3)

فرغ لتوه من تجهيز فراشه استعدادا للنوم, غالبا ما ينام فى التاسعة, سمع دقات رقيقة على باب الشقة, تبادر إلى ذهنه أمران.

أولا: من هذا الوقح الذى يأتيه الأن؟

ثانيا: لماذا يأبى الجرس على العمل رغم أنه أصلحه اليوم؟!

فتح الباب بقبضة غاضبة و حاجبين معقودين, سرعان ما ارتخيا و قد فاضت ملامحه بالدهشة:

- هل تذكرنى؟

- .............

ضحكت فى عصبية مضيفة:

- أعلم أن الوقت غير مناسب و أنك أعزب و لكن الأمر ضرورى.

أفسح لها الطريق لتدخل, أغلق باب الشقة فى هدوء,تأملته فى بيجامته الكاستور مبتسمة, فقال:

- هل يضايقك أن أظل هكذا؟

هزت كتفيها قائلة:

- هذا ليس شأنى.

تناول سيجارة من ضمن عدد من السجائر الفرط المرصوصة على البوفيه ثم جلس على الفوتيه المقابل للكنبة التى جلست هى عليها و أشعل السيجارة يسألها:

- خير!

- أنا منقذتك!

- ماذا؟

- لقد عرفت أنك ستخلى الشقة خلال أيام معدودة بعد وفاة ....

ابتلعت باقى الجملة لحساسية الموقف, التقط هو نفس عميق من السيجارة و هو يتأملها ببرود, لم يشىء أن يسألها كيف عرفت بهذا الأمر لأنه سيبدو كالأبله, فبادرها:

- كيف ستنقذينى؟

- أخى عبد المنعم يعمل فى مشروع إسكان المتزوجين حديثا و وضعه الأن يتيح لنا أن يكون بمثابة مفتاح الفرج أذا ....

- تزوجنا.

أومأت برأسها فى انفعال فضحك قائلا:

- و من سيدفع ثمن الشقة؟

أشارت إليه فى استنكار قائلة:

- أنت بالطبع.

- أنا لا أملك أى مليم.

نهضت تتحرك صوب باب الشقة فاستوقفها قائلا:

- هل هذا كل شىء؟

- عند إخلاءك الشقة مؤكد الساكن الجديد سيراضيك بمبلغ ما, أيا كان هذا المبلغ فلن يقل عن 4 آلاف جنيه و هو ثمن كافى كمقدمة للشقة.

(4)

- القهوة فارت يا عاطف.

كان عاطف يرى ذلك جيدا و لكنه أحب أن يتأمل فوران القهوة إلى أن أطفى سائل القهوة نار الموقد, فأغلق الموقد و صب القهوة فى كوبه المفضل.

- ماذا بك يا عاطف؟

- لا شىء يا عم حسنى.

- هل تتدبر أمرك جيدا؟

- تقريبا يا عم حسنى.

- الحمد لله.

تجشأ عم حسنى فى صوت قوى فابتسم عاطف و أصابعه تلتف حول الكوب الساخن يستمد منه الدفء فيسرى ذلك التيار البارد فى أصابعه الباردة و باقى أنحاء جسده المتعطش لهذا الدفء.

(5)

يشعر بالحر داخل هذا المطعم الصغير الكائن بالمنشية, يجلس على مائدة رخامية لامعة و أمامه على المقعد البرتقالى صديقه شكرى باسم الوجه على الدوام.

- ما رأيك فى مطعمى الجديد؟

- ماذا يمكننى أن أقول سوى أنه ممتاز.

- بدون مجاملة.

التقط عاطف أحدى سجائرة الكليوباترا يضيف بلامبالاة:

- أنت أعلم الناس بكرهى للمجاملات.

أشعل السيجارة ثم سأل شكرى:

- لماذا لم تخبرنى بقدومك من البحرين؟

- و الله يا عاطف كنت مشغول فى هذا الموضوع تماما.

أشار عاطف بسبابته إلى باب المطعم الزجاجى يسأل:

- هناك لافتة ضوئية على الباب .....

كالعادة يندفع شكرى و يقاطعه بحماسته الطفولية التى تذكره بالعربى ليقول فى صوت ضاحك:

- - مكتوب عليها كشرى بالكمبيوتر... نعم ... نعم, فلقد أشار على أحد المقربين بهذه الفكرة الجهنمية كوسيلة للدعاية و لفت الانتباه فاشتريت كمبيوتر مستعمل و نجار ابن حرام صمم لى هذا الصندوق الوهم المملوء بالأزرار و المصابيح الملونة و أوهمت الناس بأن هذه الأشياء هى التى تقدم لهم طبق كشرى مطبوخ بالكمبيوتر!

ضحك عاطف فى هدوء ءو الآخر لا ينفك عن إرسال كلماته المتدفقة السريعة التى تتلاحق فى سرعة غير منتظمة تسبق أفكاره حتى:

- و لكن بشرفك, إليست فكرة عبقرية؟, الطبق مثل أى طبق كشرى آخر سواء فى جودته أو فى كميته و لكن بسعر أعلى و زبائن تتدفق إلى هنا لتحقيق البرستيج, أنا ضربت عصفورين بحجر!

نفث عاطف آخر دخان فى سيجارته, و أصغى إلى أغنية شعبان عبد الرحيم الجديدة.

- " أنا بكره إسرائيل و بحب عمرو موسى"!

مقالات أدبية: مرض عصر هضم الكتابة ! بقلم/ مروان محمد


لا يمكن أن يكون هناك عبء يمثل ضغط على صدرى بقدر عجزى عن الانتهاء من الروايتين الباقيتين " ذكريات ما قبل الموت" و " التربة الحمراء", لا يمكنك أن تجبر الوحى على أن يكون تحت أمرك, مهما حاولت استعطافه فأنه يآبى و لا تعرف متى سيرضى عنك ليفتح لك الزنزانة التى تحتوى على كل الكلمات التى تكفى لإنهاء روايتك, أقاوم رغبة ملحة أن أفتح فى روايات أخرى لأنى لا أريد أن أكون مثل ليناردو دافنشى, يبدأ الكثير جدا من الأعمال و لا ينهيها, مات ليناردو دافنشى مخلفا أعمال كثيرة جدا غير مكتملة ألا القليل منها يمكنك عدهم على أصابع اليد الواحدة!

كما أنى لدى عادة سيئة و هى قراءة أكثر من كتاب فى وقتٍ واحد فلا أحاول أن أسرب نفس هذه العادة السخيفة إلى كتاباتى, استعين بمذكراتى أو مروانياتى حتى أحافظ على لياقة الكتابة إذا أمكن قول ذلك, فذهنى و أصابعى يحتجان إلى تدريب مستمر على الكتابة, يجب أن أسجل بشكل يومى خواطرى لعلنى أندمج فجأة فى رواية من الروايتين و لكن متى, كنت أحس أن تلك الأجازة الصيفية ستكون ملائمة جدا للإنتهاء من الروايتين أو على الأقل واحدة منهما, فانا لدى شهرين كاملين !!

أنها المرة الأولى فى حياتى التى أحصل فيها على شهرين كاملين أجازة فهى فرصة لا أعلم إن كانت ستكرر مرة أخرى أم لا, أعلم أن هناك قلة من الناس ستقرأ هذه الأعمال و كلهم لا يكلفون نفسهم خاطر أن يعلقوا على الرواية, ذلك التعليق و لو كان كلمة شكر ينتظره من هم مثلى بفارغ الصبر و لكنه لا يأتى أبدا, يكفى أن تشعر بالسعادة و أنت ترى أن هناك 12 شخص قاموا بتنزيل روايتك أو 150 شاهدوا روايتك و لا تعلم هل قرأوها؟, هل شعروا بالملل منها؟, هل أكملوها للنهاية؟, ما هو أنطباعهم؟

كل ذلك لن تعرفه و لكنى أيضا فى نفس الوقت لا أريد أن أتوقف عن ممارسة الشىء الوحيد الذى أحبه و أتصور أننى أجيده, أعلم أننى أسرف الكثير من الوقت للكلام عن الكتابة و أزمة الكتابة و كيف تكون الكتابة و المعاناة النفسية التى يعانيها الكاتب لمحاولة إنهاء رواية, ربما هذه الفقرات مكررة بصيغ أخرى فى صفحات سابقة و لكنى قررت فى مروانيات أن أكتب كل ما يجول بخاطرى و لا أريده أن يهرب, فالسبيل الوحيد لسجن هذه الخواطر و الإبقاء عليها حية هو تسجيلها فورا, فور أن ترد خاطرة أجلس لأسجلها, لأنها بعد أن تنتهى من العبث برأسى تنتحر فورا فتتركنى بلا ذاكرة , فيما كنت أفكر منذ دقائق؟, تختلط الأمور و تتزاحم الأفكار و لا تترك لدى سوى انطباع عال من الضجيج الغير مفهوم بالمرة.

أشعر أنى مذنب على نحو ما فى تأخرى فى إنهاء أيا من الروايتين, شعور بالكسل, أسرف وقت أكبر على موقعى الثقافى "حروف منثورة"و أحيانا فى مناقشات سياسية غير مثمرة حول الوضع الراهن و الدخول فى جدل طويل مع ألوان مختلفة من العقول التى أغلبها للأسف الشديد يتسم بالغباء الشديد!

الفيس بوك أشبه بأخطبوط يتسلى بحرق كل الأوقات التى كان من الممكن أن استثمرها فى إنجاز أعمالى الأدبية و لكنى للأسف أضيعها فى تلك المناقشات بدون جدوى, بدون نتيجة.

حتى مشروع روايتى المصورة أو بالأدق التى سأقوم برسمها أشعر بأن يدى ثقيلة جدا و لا تريد أن تنصاع لى و تبدأ فى الرسم, كنت أتعذر أثناء شهور العمل فى المدرسة أن ضغط العمل لا يدع مجالا لمزاجى الشخصى أو وحى أو أيا كان أسمه أن يساعدنى فى أنهاء أعمالى الأدبية و أننى فور أن أحصل على أجازة آخر العام سيكون مزاجى رائقا مما يعنى إنتاج غزير, اصطحبت معى اللاب توب من القاهرة إلى الإسكندرية, أنظر إليه على أنه وجبة ثمينة للغاية سألتهمها التهاما فور الوصول إلى الإسكندرية.

أجلس كل يوم إلى اللاب توب و أشعر بأن مشاعرى تنقلب إلى تقلبات معوية ! و لكنها لذيذة فى نفس الوقت, أتخيل نفسى لا اتوقف عن نقر الأزرار على اللاب توب لمدة لا تقل عن ساعتين ثم أنظر بعينين راضيتين عن 60 صفحة أنجزتهم فى أحدى الروايتين و لكن مر شهر كامل بدون أن انجز شيئا ذو جدوى ألا من قراءة عدد من الروايات الطويلة و التعليق عليها من خلال الفيس بوك و كما قلت الدخول بشكل يومى فى مناقشات سخيفة حول الأوضاع السياسة و أسهال شديد فى بوستات فيس بوكية حول الأوضاع السياسة ثم انجرف للرد على التعليقات.

ثم ماذا بعد؟, لا شىء ينتهى كل يوم بدون أن أكتب حرف واحد فى أى من الروايتين, هذا شىء مؤسف بالفعل, أشعر بالغضب من نفسى,لا أملك كل الوقت فى العالم لكى أمارس هذه الرفاهية من المزاجية الحادة و هو أن يفارقنى الوحى أو هذا الشىء اللعين لمدة شهر كامل و أنا غارق فى محاولات مستميتة مستجدية لاستدعائه بدون جدوى, يجب أن يعلم ذلك الوحى أن الزمن تغير تماما و أصبحت وتيرة الحياة أسرع و لا يمكن ان أصبر عليه كل هذا الوقت, عليه أن يعلم أن أجازتى محدودة و سأعود مرة أخرى إلى ضغوط العمل اليومية مما سيقلص من فرص استدعاءه فليس هناك وقت أفضل من هذا الوقت, بقى أقل من شهر الأن و أنا لازالت فى حالة انتظار.

هل الوحى حالة وهمية نخترعها نحن لنتهرب من أن مزاجيتنا الطفولية هى التى تتحكم فينا, نهرب من هذه الحقيقة بإدعاء أن الوحى يستعصى على الحضور. 

ربما و لكن كثيرا ما زارنى الوحى و جعلنى أكتب الكثير من الصفحات بحماس شديد فى كلتا الروايتين و أيضا هذا الألهام أو الوحى ما جعلنى أنهى روايتى شارع الست نخلات التى بدأتها فى 2001 و انهيتها فى 2012 !!, هو الذى جعلنى أنتهى من مجموعتى القصصية و أيضا رواية ثلاث مرات و من ثم قمت بتجميع كل مقالاتى المئة تقريبا فى كتاب تحت عنوان خبر عاجل و لكن و كأن الألهام قرر أن يأخذ أجازة مفتوحة بدون أن يعلن لى متى سيعود, يتعامل معى كأنه المتحكم فى كل الأمور و أنا مجرد إداة لكل خططه الأدبية, مجرد أن أتصور هذا يدفعنى إلى الشعور بالغيظ منه و من نفسى, و لماذا أحتاج إلى الألهام, فالفكرة كلها حاضرة فى ذهنى بالإضافة إلى المشاهد و الحوار, ماذا ينقصنى؟, الذى ينقصنى هو أن أضرب مزاجيتى بالجزمة القديمة !

كنت أتمنى أن أقرأ خواطر إنسان عادى و مذكرات إنسان عادى فقلت لنفسى و لما لأكون أنا فلأكتب عن نفسى و من ثم أقرأ ذكريات و خواطر إنسان عادى و هو أنا.

لا أثق فى نجاح هذه التجربة و لا أعول عليها كثيرا و لا أعلم متى سأتوقف, أتصور أن من يكتب ذكرياته لن يتوقف حتى يموت و لكننا نرى كثيرون يكتبون مذكراتهم و ينشرونها على الملأ و هم على قيد الحياة و كأن البقية من عمره لم تعد مهمة لتدون, كأن وجوده من بعد كتابة المذكرات أصبح تحصيل حاصل, المشهور من هؤلاء يكتب مذكراته ثم يعود إلى دكة الاحتياطى فى انتظار قرار موته!

لماذا لا يكتب كل ما يجول بخاطره و ذكريات أخرى ستتكون لديه حتى يضع رأسه و لا ينتظر أن يرى ردود الفعل على مذكراته, هو سيتركها لمن سيقرأها فيباركها أو يلعنها.

الناس تريد أن تقرأ فى مذكرات الشخصيات العامة و المشاهير مواقف و أحداث مثيرة أشبه بالأفلام , لا يريدون أن يقرأوا سيرة إنسان عادى لأنهم كلهم يعيشونها و لكن ربما لو كتبها البعض و عبر عنها بطريقة يعجز العامة عن التعبير بها لخرجت مثيرة و ممتعة و لربما رأى نفس المواقف التى مر بها فى سياق و من منظور مختلف يدفعه للتساؤل كيف لم أرى الأمر على هذا النحو و قد مررت بموقف مماثل, ثم أن مذكرات الأشخاص المغمورين العاديين تخلق نوع من الحميمية بين كاتب المذكرات و بين القارىء لأنها تتحدث عن مواقف عادية جدا مر بها القارىء ألف مرة فيشعر بالألفة بينه و بين كاتب هذه المذكرات.

مقالات دينية: أركان الإسلام بين الكهانة والديانة الحلقة الأولى بقلم الشيخ/ محمد الزعبى

 " من لبنان"

 مقدمة

إنّ كلّ دين أو فكر أو مذهب فلسفيّ ثوريّ يبدأ في أوّل انتصاره متوقّداً متوهّجاً يمنح الإنسان وعياً وقدرة، وإذا كان الفكر يهدف إلى سموّ الإنسان فإنّه يأخذ بيده في سلّم الكمال، ولكنّ هذا الدين أو الفكر لا يلبث أن يتعرّض للجمود، ويقع فريسة لحشويّة مفسريه وجمود التقليديّين فيه، خاصّة إذا طال الفاصل الزمنيّ أو التاريخيّ بين مؤسّسه وبين أتباعه… وهذا ينطبق على مختلف الأديان والفلسفات الباطلة والحقّة، فالماركسيّة بعد ماركس وأتباعه الأوائل تعرّضت للكثير من التفسيرات والتأويلات التي ابتعدت بها في كثير من الأحيان عن أهدافها ومبادئها، وكذلك دين موسى وعيسى قد انحرفا كثيراً بفعل عامل الزمن، والزمن بحدّ ذاته ليس سبباً للانحراف، وإنّما التفسيرات المتراكمة عبر الزمن، والتي في كثير من الأحيان تخضع لمتطلّبات ومصالح الناس وبخاصّة الطبقة الحاكمة والمترفة، والتي يعبّر عنها الاصطلاح القرآنيّ بـ "الملأ" وهم الطبقة الحاكمة والمحتكرة والمترفة على حساب المستضعفين، والتي وجدناها في مواجهة كلّ دعوة أو ثورة نبويّة، حيث وجدنا هؤلاء الملأ يتكرّر ذكرهم في القرآن الكريم (قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ).
ولذلك حذّر القرآن الذين آمنوا أن يصيبهم طول الأمد بجمود الفكر، قال تعالى في سورة الحديد: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) فطول الأمد سبب لقسوة القلب، والقلب في القرآن يُرمَز به أحياناً للشعور، وغالباً للفكر والعقل قال تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)[ الأعراف179] وقال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) [الحج46] وقال تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [سورة محمـد24] فالقلب إذاً هو محل الفقه والعقل والتدبر بحسب هذه الآيات. ومن الآيات التي تشير إلى أن القلب هو محل الفكر والعقل:
(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [البقرة]
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[البقرة]
(فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[المائدة13]
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [الأنعام25]
(إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ)[التوبة45]
-والريب وإن بدا في مظهر قلق انفعالي إلا أن منشأه عدم الوضوح الفكري-
(فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [الصف5]
(ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ) [المنافقون3]
من هذه الآيات وغيرها نتبيّن بُعْداً هامّاً من أبعاد تحذير القرآن للمؤمنين أن يصيبهم ما أصاب الذين (طَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) فطول الأمد إذاً هو التراكمات التاريخيّة وموروثات الأجيال التي تُحَوِّلُ مفاهيم الدين وعباداته من مفاهيمَ وعباداتٍ تسمو بالإنسان وتضاعف وَعْيَهُ وحِسَّهُ بالمسؤوليّة الاجتماعيّة والسياسيّة التي تفرضها عليه مُهِمّة السعي إلى كمال الذات وإلى كمال الآخرين من خلال الهداية التي يطلبها لنفسه وللإنسان عموماً في حياته الفرديّة والاجتماعيّة والدوليّة، تُحَوِّلُ تلك التراكمات هذه المفاهيمَ والعباداتِ السامية إلى طقوس كهنوتيّة غيرِ مفهومة وغير قادرة على بعث الوعي والهدف والحركة، فتصبح هذه المفاهيم والعبادات الطقسيّة الكهنوتيّة أثقالاً وعبئاً يكبّل الوعي ويعيق حركة التحرّر والثورة.
وإفراغ الدين من أبعاده التحرّريّة الثوريّة كان مُهِمّة الطغاة على مرِّ التاريخ، حيث استخدم هؤلاء الطغاةُ العلماءَ والمفكرين ورجالَ الدين لمحاربة الدين، ولذلك تواترت نصوص القرآن والسنّة في التحذير من حلف المصلحة بين العلماء والأمراء، كما جاء في حديث النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: «صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس وإذا فسدا فسد الناس: العلماء والأمراء» [كنز العمال وحلية الأولياء] وقد لعن القرآن العلماء الذين يكتمون مفاهيم الإسلام ويحرِّفونَها (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [البقرة174]، وتحريف الدين إنّما يبدأ من طلب المصالح والمكاسب، وهذه غالباً ما يتحكّم بها السلطان، ولذلك حذّر رسولُ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم العلماءَ من مخالطة السلطان فقال: «العلماء أُمَناءُ الرسل ما لم يخالطوا السلطان ويداخلوا الدنيا، فإذا خالطوا السلطان وداخلوا الدنيا فقد خانوا الرسل فاحذروهم» [كنز العمال] فإذا كان الكفر نقيضَ الإيمان فإنّه بإمكاننا أن نستخدم مصطلح "دين المصلحة" أو "دين المكاسب" مكان مصطلح "الكفر" دون أن يَظهر فَرْقٌ في الاستخدام، لأنّ منشأ الكفر عبر التاريخ كان المصالح والمكاسب، ولو لم يَرَ طغاة التاريخ في الدين تناقضاً مع مصالحهم لما حاربوه، ولذلك أيضاً كنّا نجدهم حريصين على الالتزام بدينٍ فَصَّلُوه على قياس مكاسبهم، وعلى رعاية هذا الدين؛ من هنا نفهم حرص فرعون على الدين الذي فَصَّله على قياس سلطته (إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) [غافر26] ولذلك عندما واجه القرآن أبا لهب لم يواجهه من حيث كونُهُ متمسِّكاً بدين آبائه وأجداده، فهم كانوا يأكلون آلهتهم إذا جاعوا، وإنّما واجهه من حيث كونه متمسِّكاً بماله ومكاسبه (مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ) [المسد2] فلم يقل القرآن: ما أغنت عنه أصنامه، لأنّ رفضه للحقّ من باب الحفاظ على مكاسبه لا من باب الحفاظ على آلهته (أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) [الواقعة] إنّهم يُكَذِّبون محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم طلباً للارتزاق، وليس دفاعاً عن دين آبائهم وأجدادهم. ولذلك فمنذ أن قتل قابيل هابيل بدأ الصراع بين دين عبادة الله ودين عبادة الذات، فقابيل كان متديّناً -كما يشير الشهيد د.علي شريعتي في كتابه "دين ضدّ الدين"- بدليل أنّه احتكم إلى الدين في خلافه مع أخيه، فقَرَّبَ قربانه كما حكم الدين، ولكن لَمّا تناقض الدين مع مصلحته رفضه وتمرّد عليه: ومنذ ذلك الحين بدأ الصراع بين دين عبادة الله الذي تجلّى في دعوات الأنبياء والأولياء، وبين دين عبادة الذات الذي تجلّى في الوثنيّة والفرعونيّة والجاهليّة والعلمانيّة والنفعيّة...
إنّ طلب المصلحة والمكاسب على حساب الحقيقة والدين هو العامل الأساس عبر التاريخ لوقوع الكفر والظلم والانحراف. ولذلك فإذا قلنا "دين المصلحة" نقصد به الدين الذي يُفَصَّل على قياس مصالح الفرد أو الجماعة بِغَضِّ النظر عن الحقيقة، ويكاد يكون دين المصلحة بهذا المعنى مرادفاً للكفر والظلم، ويمكننا من هذه الزاوية أن نكشف أنّ الكفر الذي حارب أنبياء الله في التاريخ لم يكن إلحاداً، بل كان ديناً تمّ تحريفه واستغلاله من قبل الملأ، فالأصنام المذكورة مثلاً في سورة نوح، كانت أشخاصاً تميّزوا بالصلاح والتقوى (قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا) [نوح] روى البخاري عن ابن عباس : «ودُّ وسُواع ويغوث ويَعُوق ونَسْرٌ : أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم انصِبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً وسَمُّوها بأسمائهم ففعلوا ، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عُبدت». يقول سيد قطب في تفسيره ظلال القرآن: «وكان من مكرهم تحريض الناس على الاستمساك بالأصنام التي يسمونها آلهة: (وقالوا لا تذرنّ آلهتكم) بهذه الإضافة: (آلهتكم) لإثارة النخوة الكاذبة والحمية الآثمة في قلوبهم. وخصّصوا من هذه الأصنام أكبرها شأناً فخصّوها بالذكر ليهيّج ذكرها في قلوب العامة المضللين الحميّة والاعتزاز.. (ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً) وهي أكبر آلهتهم التي ظلّت تعبد في الجاهليّات بعدهم إلى عهد الرسالة المحمدية.. وهكذا تلك القيادات الضالّة المضلّلة تقيم أصناماً، تختلف أسماؤها وأشكالها، وفق النعرة السائدة في كل جاهليّة؛ وتجمع حواليها الأتباع، وتُهيّج في قلوبِهم الحميّة لهذه الأصنام، كي توجّههم من هذا الخطام إلى حيث تشاء، وتبقيهم على الضلال الذي يكفل لها الطاعة والانقياد: (وقد أضلوا كثيراً) ككلّ قيادة ضالّة تجمع الناس حول الأصنام.. أصنام الأحجار، وأصنام الأشخاص، وأصنام الأفكار.. سواء!! للصدّ عن دعوة الله، وتوجيه القلوب بعيداً عن الدعاة، بالمكر الكبّار، والكيد والإصرار». إذاً ودّ وسواع ويعوق ويغوث ونسر.. كلّها رموز صلاح استغلّها الظالمون الرأسماليون (واتّبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خساراً)(ولا تزد الظالمين إلا ضلالاً) ليكرّسوا ظلمهم وبغيهم، وكم شهدنا في عصرنا فاسدين وظالمين ومترفين وعملاء يرفعون صوراً لشهداء، وأسماء لصحابة يستغلّونها لإثارة الفتن، وتحقيق مكاسب. فالكفر إذاً وعلى مساحة التاريخ كان ديناً تمّ استغلاله واستغلال رموزه، وتحريفه من أجل تحقيق مكاسب رخيصة من قبل زعماء ظلمة استخدموا رجال دين ليضلّلوا من خلالهم الجماهير.
بعد هذه المقدّمة نأتي إلى موضوع أركان الإسلام، ونقصر الحديث عن أربعة أركان من الأركان الخمس المتّفق عليها بين المسلمين، والتي وردت في حديث النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم : «بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ : شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ، وَالْحَجِّ ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ» [البخاري ومسلم].
وإنّه وإن كانت هناك روايات تضيف أركاناً هامّة كقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «الإِسْلامُ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ: الإِسْلامُ سَهْمٌ، وَالصَّلاةُ سَهْمٌ، وَالزَّكَاةُ سَهْمٌ، وَالْحَجُّ سَهْمٌ، وَالْجِهَادُ سَهْمٌ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ سَهْمٌ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ سَهْمٌ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ سَهْمٌ، وَخَابَ مَنْ لا سَهْمَ لَهُ» [البزار والطيالسي وابن أبي شيبة] فرغم أهمّيّة هذه الروايات إلا أنّنا سنقتصر على دراسة أربعة أركان: الشهادتان، والصلاة، والصوم، والحجّ.. فهذه الأركان لو حُرِّرَتْ من التراكمات الطقسيّة والكهنوتيّة كانت كفيلة ببعث نَهضة شاملة وبإحياء وَحدةٍ عَمِلَ العدو والهوى على تمزيقها.
في الحلقة القادمة "الشهادتان وعي وجوديّ وقرار ثوريّ"

ما قل و دل: أحلم بقلم/ أحمد العتر



أحلم أن أرى أطفال فقراء بلدى يجلسون فى حدائق خضراء ويلعبون بدون قلق وفى أمان فى مساحات خضراء واسعة مفتوحة...
أحلم أن أرى أطفال فقراء بلدى يذهبون إلى دارتليق بالبشر واسعة تدخلها الشمس والضوء ونور التعليم والفهم...
أحلم أن أرى أطفال فقراء بلدى يرتدون أزياء الابطال الاسطوريين فى حفلات تنكرية كرنفالية موسيقية يحضرها آبائهم .
أحلم أن أرى أطفال فقراء بلدى يعالجون فى مستشفيات آدمية وعلى سرائر وملائات آدمية ويعاملون معاملة آدمية ..
أحلم أن أرى أطفال فقراء بلدى لا يعملون باليومية لإعاشة أسرهم الفقيرة ولا تنتهك آدميتهم فى استعمالهم كقرابين حية للسياسة وللأرهاب ....
أنهم المستقبل أحلم أن نبنى مستقبلاً يليق بهم وبنا ليتذكرونا .

مقالات سياسية: الطابور الخامس فى الميدان الثالث بقلم/ أحمد العتر



فى مصر ميدان واحد وهو ميدان التحرير وهو صاحب الشرعيه من 25 يناير العظيمة بموجاتها المتعاقبة وعلى اعتبار إن إشاره مرور رابعة التى هى أصغر من أستاد محمد الخامس أو أستاد مدينة محلية مثل هال سيتى فى بريطانيا أصبح ميدان ...فهناك طابور خامس يحاول كالعاده شق صفوف الثوار لصالح التيار الدينى وعلى رأس هذا التيار الذى يتميز بالتلون مثل الحرباء من يسمى عبد المنعم أبو الفتوح القيادى التاريخى للجماعة والذى أنشق عنها فى حركة تمثيلية ليصبح قائداً لما يسمى العلمانية الدينية !!! أو العلمانية بمرجعية دينية!!!!, (أرأيتم ضحالة تفكير الرجل وعجزه عن أتخاذ قرار فى اتجاهه السياسى بين اليمين أو الوسط أو اليسار فأصبح فى الطرف المائع والمتردد ولقى ذلك هوى من بعض حسنى النوايا و المترددين و المخنثين سياسياً ومن بعض من يزايدون على إنسانية وديانة الآخرين الأقل أو الأكثر تشدداً منهم وأصبحوا هم الفرقة الناجية الجديدة !!! ...وفى انتخابات الرئاسة ترشح أبو الفتوح بوجهه الثورى الدينى العلمانى !!! خدع البعض مما أدى إلى خسارة مرشح الثورة والاشتراكى القومى حمدين صباحى وفى النهاية أدت إلى كسب مرسى لأنه تصالح مع قوى الثورة التى تدير الشارع وليست النخبة ألا تعبير عن أراء الشارع ...
الأن أبو الفتوح يطرح مبادرة ضد الأخوان وضد العسكر !!!!لكنه يطرح فيها فكرة عودة مرسى للحكم وإجراء استفتاء على بقائه وهو مايجعلنى أطلق صوتاً حلقياً إسكندرانياً أصيلاً للتعبير عن الحنق ....كما قال المصريين (يا متعشم مرسى يرجع رئيس يامتعشم أبليس يصوم أتنين وخميس) والحقيقة كذلك و أكثر لقد سقط الرجل وجماعته من ذاكرة الشعب المصرى إلى قاع مزبلة التاريخ وإن كان المصريون عبر تاريخهم المديد قد لغوا أسماء من كانوا يحكمونهم من التاريخ والذاكرة وتبقى بعض الكتابات للتاريخ وكان آخرهم محمد نجيب والأن محمد مرسى ...ويقول تتح أيضا أنه ضد حكم العسكر !!إين هو حكم العسكر ؟؟؟
.. ما يحدث فى مصر ليس حكم عسكرلأن الجيش قد نفذ خريطتنا السياسية بحذافيرها وغير متدخل ونحن بحاجه إليه لمواجهة الارهابيين كمؤسسة وطنية راسخة من مؤسسات الدولة ونعلم أن هناك بعض الإجراءات الاستثنائية ستحدث ولكن ضد المسلحين والأرهابيين وهم فى النهاية من أرجعونا إلى هذه النقطة وللأسف هناك بعض من ينتمون لليسار كذباً يصدقونه ومنهم الاشتراكيون الثوريون ومن يتمسحون بالثورة ومنهم أحرار وحركة 6 إبريل وبعض النشتاء الصياصيين أمثال وائل غنيم ... وقد حرقوا تماما ًمن الشعب ولا وجود لهم فى الشارع وللناعمين أيضا من يقولون أن فى عهد مرسى كانت حرية الأعلام متاحة وحرية سبه متاحة ولم تغلق قناة ولم يقصف قلم .....؟؟ ...مرسى كان يتمنى فعل هذا و أكثر لكن غباءه واستعجال جماعته فى أخونة الدولة جعل الدولة العميقة بأدواتها تعاديه وتكرهه لذلك لم يكن فى يده سوى ميليشياته يحاصر بها العدالة مرة والأعلام مرة ويقتل بها شعبه مرات ومرات.
مصر تمر بفترة استثنائية يجب أن تعلن فيها حالة الطوارىء المقيدة بمدة ويجب عودة النشاط الدينى للأمن الوطنى للسيطرة على ألاف الأرهابيين اللى دخلوا مصر فى عهد المعزول ...أما نظرياتكم الهيلمانية نفسى أسمعها لو حد منكم انضرب فى رابعة ولا ليه حد قريبه اتقتل من الاخوان ولا حتى استرجل ودخل الجيش ووقف فى رفح وانضرب بالنار(وأنا أشك فى حكاية استرجل دى )..
ولا بتفهموا فى السياسة ولا ليكوا فى الأمن الوطنى وقبل الثور ة اللى كان عايز يشتغل فنان مترب واللى كانت عايزه تشتغل رقاصه أرجعوا لاحلامكم الجميلة وسيبولنا السياسة الدموية الوحشة.... عايزينا نتعامل مع أخوان صهيون بالورود ....انزلوا يا حلوين كلموهم واقنعوهم علشان يخدوكم أسرى ونشوف ساعتها مستوى حقوق الإنسان فى دمكم هيوصل لحد فين ده أنتم لما يتسرق منكم حاجة الشغالة الغلبانة هى من يتم سحلها فى القسم عشان خاطر الهانم أو البيه إيها البرجوازيين ...اللى أنتم فيه ده مش إنسانيه زيادة ده مزايدة على الإنسانية وعبط سياسى وطفولة متأخرة ونعومة غريبة تجعلنى أقشعر ... إن أخوان صهيون يلبسون أطفالهم ونسائهم أكفاناً بيضاء فعن أى حقوق نتحدث أنهم قنابل موقوتة يجب نزع فتيلها ...
فى أمريكا يتم التصنت على المكالمات الهاتفية ومواقع التواصل والكاميرات فى كل مكان مع حق التفتيش للاشتباه من المطار لأخر متر فى أمريكا وكل ده لمجرد الاشتباه فى الأرهاب, أحنا عندنا متأكدين من الأرهاب و أنا أعيب على الشرطة والجيش تباطؤهم فى تنظيف البؤرالعفنة  فى رابعة والنهضة وسيناء .... أنهم الخونة أو الجبناء من يحايدون فى وقت الثورة والنضال ضد قوى الظلام وهم كذلك وهذا هو الميدان الثالث أو الطابور الخامس..
تتبقى رسالة أخيرة للمشتتين فعلاً ومن يروعهم فكرة عودة الدولة البوليسية, إلى رفاقى المشتتين و الصادقين فى ثورتهم والخائفين من العودة لبطش الداخلية و أمن الدولة أو لحكم العسكر لكم أقول :
ياجدعان أحنا القوة ...هم اللى مصدقوا أنهم يرجعوا تانى لصفوف الشعب وبرضه مش هنسيب حقنا فى محاكمات عادلة من أول وجديد من يوم 25 يناير لحد امبارح عشان نجيب حق كل شهدائنا من أول غريب بتاع السويس لحد عيسى عصام اللى استشهد امبارح نشتغل على ده و ألا نفرق الصف والأخوان يكسبوا من تشتتنا ....البلد مش هترجع لورا.. وإن كنا رجعنا خطوه فده عشان الأخوان  وضعونا فى خطر على الدولة نفسها بحدودها بنيلها بوحدتها الوطنية فكان مجرد التفكير فى صناديق الانتخاب وترك كل ماعداها غباء سياسى لا يغتفر ولن نقع فيه ولا يوجد شرعية ألا للشعب ..واحنا دلوقتى بدأنا من الأول خلونا نركز على الدستور والعدالة الانتقالية والمعتقلين بتوعنا اللى فى السجون ومنفضلش نزايد على بعض وعلى الداخلية والجيش ...إن كان فيهم ناس غلطوا نضغط عشان يتحاكموا أنما نهاجم الكيان كله كده بنهدد دولتنا لصالح الأخوان وللأسف الأخوان بخبثهم وبخلاياهم الصاحية والنايمة وألاف مثل تتح و6 أبريل ومصر الطرية والاشتراكيين الثوريين بيراهنوا على مبادئنا وعلى صدقنا اللى البعض بيسموه اندفاع بس أحنا برضه محدش يستخدمنا وخصوصا الخرفان أحنا نشتغل على مصر جديدة و أنسوا اللى فات خالص ولو حاولوا يرجعونا ورا أو يغيروا الاتفاق أرواحنا جاهزة للثورة فى أى وقت و أهو أحسن من الحياة اللى مبقلهاش طعم دى ....صباح الحرية يا أجدع رفاق.

* هذا المقال يعبر عن رأى صاحبه فقط و لا يعبر عن رأى مسئولى موقع حروف منثورة و ذلك إيمانا من الموقع أن يكون للكل الحق فى أن يتخذ ساحة له 

الثلاثاء، 30 يوليو 2013

مقالات سياسية: من نحن؟ (تونس الثورة نموذجا) بقلم/ مختار الأحولى

 ( صحفى من تونس)

وقبل تخصيص ما يجب أن يخصص لسوريا واليمن وجب أن نمرّ على الزمن الفاصل الذي كان لحظة التأسيس في الأروقة وبتغطية من أحداث ليبيا والحرب على ألقذافي وليس ثورة كما كانت في المنطلق(أيام بنغازي) إذ بدخول الناتوا وآليته العسكريّة التي حسمت المعركة عمليّا وفعليّا خرج مفهوم الثورة من ساحة ثورة المنطلق وهنا يبرز جليّا وجه المحرّك وخدمه الرئيسيين على الميدان كلاعب رئيسي وأساسي يجب أن يعي كلّ حسب رأيه. حجم ومسار ومآل نضاله.وكان للأحداث في ليبيا انعكاس(مؤسس لمرحلة فوضى خلاّقة في محيط المغرب العربي) على مجريات الأمور سواء في تونس أو مصر معا. 
فكان على تونس أن تدخل مرحلة صراع داخلي شرس للغاية تحكمه في الأصل قوّة رأس المال. ورأس رأس المال في آن وتضاد الدوافع والأجندات. 
وقبل أن يبرز معطى جديد قديم نسبيا هو تكريس وجود الطرف الإسلامي "كورقة تستهلك نفسها بنفسها حتى تركيز معطيات المرحلة داخل صورة ومشهد يوحي من بعيد بصراع سياسي ديمقراطي ناشئ إلى حين توفير عناصر وقواعد وشخصيات المرحلة ليصعدوا(ديمقراطيّا) للمشهد الجديد"وكانت ركائز صعود نجم من قدموا من بلاد الثلج إلى نار الانتفاضة بقوّة المال السياسي والإعلام الموجّه(كالعادة قناة "الجزيرة" التي ما تزال حتى اللحظة التي أتحدث عنها تحظى بإصغاء المشاهد العربي عامة والتونسي والمصري خصوصا. نتيجة حضورها. تبعا لأجندة محكمة البرمجة والتطبيق. وبتوفّر الآلة اللازمة لانتقاء الصورة. ومن ورائها الخبر الذي يحرّك أحاسيس المشاهد. ويقتل عقله جزئيا على الأقل. وهذا ما نجحت فيه إلى حدّ ما حتى هذه المرحلة. بمعيّة محطات أخرى تصارعها لتدعم نهجها ضمنا. من أجل الفوز بلقمة من الكعكة المعدّة للإعلام"النزيه الثوري الديمقراطي" ومن بين هذه القنوات من كان معدّا منذ حكم الصقور في ذات الميادين المخبريّة والتي كانت أذرع فاعلة في التغطية المنتقاة والتوجيه المبرمج. بحرفيّة مخادعة. لتأخذ الحيز الذي تركته فيما بعد الجزيرة التي فضح أمرها. خصوصا في تونس. ووقع حتى طردها من الساحات. حين كانت تحاول يائسة لكسب ما تبق من مصداقيّة وحياديّة مخاتلة ومغالطة وكاذبة. للعودة للدور الذي رسم لها. من خلال تنويع وجودها في صلب قضايا الشعب التونسي المصيريّة لكن حيلها لا تنطلي إلاّ على غافل جديد أو مشبوه أو مريض عقليا. وتعتمد هذه المحطّات الناشئة على الإقناع بالصورة المنتقاة بدقّة متناهية الذكاء حيث تجمع بين خاص يوهم بأنه عام. وأيضا الإلهاء حين يجب حتى أنّ بعضها أصبح مثار تهكم التونسيين. أو الغضب الفعليّ مما أفرز"حسب المتوفّر من دعم" بروز إعلام يوجّه ويحاول السيطرة بكلّ السبل على الرأي العام. قصد تسيره إلى وجهة محدّدة. وليس يعلم ويخبر ويوفّر المعلومة بنزاهة وحياديّة وصدق في تونس". وهو ما ترغبه حاليا القيادة لتكريس وجودها والتحكّم في الرأي العام وبالتالي قلب الطاولة حين تشاء على من تشاء. ونعلم كلّنا قيمة الإعلام في العصر الحالي وحتى خلال ما سمي تاريخيا بالحرب الباردة. وحتى الأداة الوطنيّة(على أساس ممولها الأول والأخير الشعب)فهي تعيش صراع كسب الشرعيّة للوجود فقط كمرفق عموم لابدّ من وجوده في المشهد العام ضرورة.ولكنّه رضخ على عادة بعض أهله الذين يتخيلون أن رزقهم بيد الحاكم وليس ممول وجودهم الشعب(دافع الضرائب)لذلك هم انحازوا لخدمة النظام وهذا عمق التخلّف والمرض الذي تعانيه ديمقراطيتنا الوليدة وبدعم خارجي لا مشروط ولا محدود.فهو النهج الذي سطّروه لكي تبق هذه المستعمرات قائمة كمستعمرة مهما كانت درجات وعي ونضج نخبتها إن لم أقل شعبها. 
وبين داخل لا يزال منه المشبوه لتاريخه الانبطاحي وعمالته للحاكم(على رأي مقولة الأجداد"الله ينصر من صبح"). وبين محاولات تلاقي صدّ الطرف الحاكم الآن. لانحياز بعضهم لقضايا شعبيّة بصدق نسبي مهمّ.محاولا الخروج بأخف الأضرار إمّا بتجنيبها وتحييدها أو بضمّها إلى ممتلكاته الحزبيّة الحاكمة مؤقّتا وهذا مالا تفترضه الحالة الثوريّة من مصداقيّة تامة وغير مشروطة وبلا خوف يعيد سريعا إنتاج خوف من سلطة مؤقّتة ويفترض أنها تؤسس لديمقراطيّة شعبيّة تونسيّة وحرّية وكرامة حتى قبل الخبز الذي هو ضرورة حتميّة.وليس لحكم جديد مؤقّت يؤسس لدائم. بشروطه وقواعده. وبطرق الاحتلال وبغطرسة ودكتاتوريّة مقنّعة بالضرورة الحتميّة. وبزوايا نظرتهم وطرحهم. وليس الكسب الديمقراطي من خلال الإقناع والجدوى والضرورة الشعبيّة الديمقراطيّة.
وحتى أسرع بلا تسرّع سأعتمد في هذا الجزء من المبحث على مقالاتي كسند وليس حجّة وهي التي نشرت بجريدة الشعب لسان الإتحاد العام التونسي للشغل. وواكبت مختلف مراحل الانتفاضة الشعبيّة التونسيّة. في أهم مفاصلها تباعا. وعلى قاعدة الصيرورة التاريخيّة ومراحله المفصليّة المؤثّرة في ما بلغته الوضعيّة الثوريّة حتى تاريخ نشر هذا البحث على الرأي العام والخاص في شكل مساهمة إثراء. وإنارة. وتشكيل وعي لمن غالطتهم وراوغتهم وهمّشتهم. أهمّ وسيلة مهمّة من أسلحة التجميع والتعبئة وهو الإعلام. وستكون هذه المقتطفات التي أنتقيها بعناية متواصلة مع الروابط التاريخيّة للانتفاضة في أهمّ مفاصلها ومراحلها. 

1- تاريخ تونس لا يخرج عن تاريخ صراع القوى: 

إن تاريخ تونس كغيرها من دول العالم الثالث(أو النامي) مرتبط شديد الارتباط. بما تفرزه مراحل الصراع العالمي لموازين القوى. سواء في الداخل. كما في ما يخصّ سياستنا الخارجيّة. وأيضا صراعا آخر لابدّ من الإشارة إلى وجوده لم يظهر إثر تفكّك الاتحاد السوفيتي بل حتى خلال ذلك الصراع. هو صراع رأس المال في ذاته وفي صلبه. وهو صراع الريادة والقيادة. وتشكّل الأحزمة أو قيادة الأحزمة. حسب القرب من سلطة القرار التي تمتلكها القوّة المسيّرة والمشكّلة لرقعة الصراع ذاته والتي تجمع بين الثروة والقوّة. وخصوصا قوّة الجذب.وقيادات الأحزمة تتشكّل بقدر توفّر الثروة اللازمة من جهة وتوفّر قوّة ردعيّة أو غطاء حماية قادرة على التحرك بسرعة كبيرة متمثّلة في(قواعد أحلاف) إذا ما غابت القدرة على إنتاج هذه القوّة تاريخيّا كبعض قوى أوروبا الاستعمارية مثلا. وحتى ما يدعى بالشرعيّة التاريخيّة أثبت الواقع الحالي أنها ليست شرط قيادة فشرعيّة الثروة والقوّة هي أصل فرض الوجود(ولنا في قطر مثال). وهي أيضا تقاس بالجدوى المرحليّة من وجودها على رأس الحزام. وطبعا درجة وطبيعة تكوين قياداتها وتوجهاتهم السياسية التي تمليه القاعدة الاقتصاديّة المتبعة ودرجة تماهيها مع القيادة المركزيّة أو العامة.والمتمثّلة حاليّا في أمريكا.وقوّة رأس المال اليهودي الصهيوني. في داخل مكوناتها وخلاياها وشرايينها الحياتيّة على جميع الأصعدة وخلف كلّ الواجهات. وجملة هذه الصراعات هي المؤثّر في التركيبة الحاكمة.
لا في الوطن العربي وحسب. بل في كلّ دول العالم الثالث(النامي) عدى من رحمهم التاريخ الثوري. وأعني تحديدا(بلدان من أمريكا اللاتينيّة).التي استفادت قياداتها من تضامن الشعب معها. ووقوفه الى جانب أطروحاتها الثوريّة. في مراحل التحرير الوطني. بينما نجحت الامبرياليّة والصهيونيّة لتركيزها الشبه كلّي على المنطقة في بثّ الفرقة بين الشعب وقياداته في المحيط العربي. وساهم الطرفان كثيرا في هذه الفرقة من خلال هوّة زرعها وهم التفوّق والقوّة(متناسين أن هذه القوّة لم تكن لتكون لولا خيانات سجّلها التاريخ بين قياداتنا العربيّة. إمّا رغبة أنانيّة في القيادة والريادة. أو رغبة في التشفّي وبدافع الحسد الذي ولّد حقد تاريخيّ تحمّل تبعاته الشعب العربي. حتى في تفاصيل حياته اليوميّة وحرّك وجنّد لهذا الغرض معطى التاريخ لفرض أفضليّة هي في أساسها دعوة صريحة للتمييز وتحقير أو استنقاص الجدوى من طرف على حساب طرف آخر. مرجعهم في أصله هو واحد في كلّ الحالات وهويتهم التي يدّعون فيها أفضليّة على العالمين. هي واحدة الأصل. ولم تكن أدواة المستعمر سوى ما غرّ هؤلاء وغيرهم من أنها مصدر قوّة ومهد تطوّر.
وهنا أكون قد مهّدت لألج التجربة الاستعماريّة في تونس ومنطلق تمدّدها في المساحة. وأسلحتها الميدانيّة الفاعلة. 

2- ضرب قاعدة الكينونة (الآلة وعقلها): 

منذ عجز بورقيبة عن إدارة البلاد رغم وجوده في هرم السلطة(أي مرضه وكبره). وبروز الصراع على السلطة. الذي سبقه نجاح في كسر حاجز وجدار الفكر اليساري في تونس إثر تفكك تنظيم أفاق. وتفرّق رفاق الأمس إلى صراع شرعيّة القيادة والذي استغلته أطراف خارجيّة لإثبات وجودها في صراعها على الحكم. والجدوى منها للقيادة في بلادها(أعني فرنسا بدرجة أولى وأساسيّة بمكوناتها. اليمين واليسار. ثمّ تأتي على القائمة أطراف أخرى كانت في تلك المرحلة ذات تأثير أقلّ على الساحة التونسيّة بشقيها الحاكم والمعارض.)وحتى الأطراف العروبية التوجّه ورغم السند الذي مثّله مصادر الفكر القومي إلاّ أنهم لعبوا ذات الورقة ظنّا منهم أنهم يساهمون في الانفتاح والتمدّد بما مثّلته بريطانيا في مرحلة ما من حاضنة وأرضيّة(حرّة)وساحة خلفيّة لنضالهم.(رغم أنّ اجتماعهم التأسيسي كان في باريس) ولم يفت زعامات الحزب الحاكم وقتها أن يبحثوا عن شرعيتهم(التاريخية) في الحكم من مصادر خارجيّة قبل الاعتماد على الشعب وتطلعاته ومطالبه وما يمكن أن يكون أرضيّة تأسيس لمرحلة جديدة(لما بعد بورقيبة) أرضيّة وطنيّة.وهذه هي رغبة المستعمر الأصلية في أن يبق البحث عن الشرعيّة لا يخرج عن أروقة وزارت خارجيته وداخليته بجناحها ألمخابراتي ووزارة دفاعه أيضا بجناحها ألمخابراتي العسكري.أولا وبالأساس. لذلك شهدنا وقبل تقريبا أسبوعين عن انقلاب 7 نوفمبر اجتماع بورقيبة بقائد الأسطول السادس الأمريكي ومبعوث من الكونغرس وفي ذات الوقت كانت الملفات تطبخ في صالونات بارونات المال والأعمال الملوث بالعمالة.وقبل الخوض في أرضيّة ولادة (الثورة) كان لزاما عليّ أن أمرّ بالمؤسس لأرضيّة الدكتاتوريّة التي استثمرها وطوّر عملها خلفه(زين العرب).هو بورقيبة الذي أطبق على الإدارة بحزبه. وأنشأ سلاح الأمن السياسي حين عرف أن نهايته باتت أكيدة. وأنه رئيس صوريّ مدى الحياة.فالساحة السياسية لم يعد لديه فيها سوى أتباعه من يتامى الدهر و(أطفال بورقيبة) الذين يطلّون علينا اليوم محاولين إيهامنا بأنه باني تونس الحديثة ومؤسس الحياة في تونس لذلك أورد مقالي الذي نشر بجريدة الشعب لسان الإتحاد العام التونسي للشغل في الرد عليهم وعلى مهزلة من أللهوه في حياته (مدى الحياة)ويريدون أن يكون شبح تونس (الثورة) كما أورد تباعا ما أسس له من تفقير للشعب وتجويعه وتجهيله الشيء الذي أخصب أرض الاستعمار في تونس وأفرز جاهلا كبن علي يحكمنا لمدّة 23 سنة.

3- بورقيبة الذي يخفيه البورقيبيون الجدد:

جاد الزمان علينا أخيرا بمن يزعمون في التاريخ البورقيبي فلسفة فنزّهوا وطهّروا الشخص بفكر الشخصنة من جديد على أنه الزعيم الفذّ والمنزّه والقائد الرمز القدوة مع علمهم "هم أولا وبالذات". بجملة الجرائم التي ارتكبها قبل حتى تولّيه زمام البلاد فما الغاية من هذه البورقيبية الجديدة وبالضبط أهي العودة إلى فكر ؟ والرجل لم ينتج فكرا في أي مرحلة من حياته الشخصيّة والسياسية . لكنه يمثل تجربة يهواها ليس فقط مجموعة شيوخ بل وحتى المغرّر بهم من بعض الشباب اللذين لم يواكبوا في يوم مآسي العهد البورقيبي . وسطوة هؤلاء اللذين يرغبون العودة لسدة الدولة من خلال جبّة بورقيبة وبمباركة من البورقيبين الموجودين في الحكومة المؤقّتة"أيام السبسي"(نمط تفكير على الأقل) .
فمن علّم الخلف طرق الدكترة والإنفراد بالرأي والتسلّط واستخدام القوّة المفرطة لقمع كلّ تحرّك نخبويّ كان. أو شعبيّ وللعلم فقط فإنّ من عاصر ثورة الخبز مثلا سيخبر الناس أجمعين أنها ثورة ماحقة وساحقة أكثر بكثير من ثورة 14 جانفي . لكنّها قمعت وعن طريق الشخص الذي تعلّم كيف يقتل الشعب وهو يحكمه "زين العابدين" الذي استقدمه بورقيبة لقمع هذه الثورة الشعبيّة. ولتنزيه هذا الأخير ألصق التهمه في شخصيات سياسية وإداريّة كزكريّة بن مصطفى وغيره على أنهم غرّروا به وأعطوه أخبارا زائفة عن الوضع ساعتها (ولا أنزههم لدورهم الكبير ساعتها في تمدد قبضة الحاكم وحتى من تصوّروا أنه خلفا لبورقيبة) . 
ولنعد من البداية متتبّعين الوجه المخفيّ عن بورقيبة و"البورقيبيّة" الذي يرغب من يرغب من سياسيي التجمّع و"الدساترة" القدامى من التجمعيين العودة للحياة السياسية من بابها الذي يخالون أنّه كبير ونموذجيّ .
ولن أتحدّث عن الشكوك التي تحوم عن دور بورقيبة في عمليّة اغتيال الزعيم الرمز فرحات حشّاد لغياب الإثبات(حتى الآن على الأقل) بل سأنطلق من عمليّة تصفية واغتيال صالح بن يوسف في ألمانية وهو الذي كان صديق جمال عبد الناصر والمحتمي بمصر من خطر بورقيبة الذي استغل رحلة هذا الأخير لألمانية. ليرسل بشير زرق العيون. والكل يعرف القرابة التي تربط هذا الأخير ببن يوسف والتي لم تشفع لهذا الأخير ساعة اغتياله . وهنا نفهم تحرّك جمال عبد الناصر كرد فعل لمحاولة اغتيال بورقيبة التي تتحدّث عنها صحافتنا هذه الأيام خصوصا إذا ما علمنا أن بن يوسف كان يميل نحو القوميّة العربية كنهج سياسي يعتمده . وللسائل فإن الخلاف بين الشخصين كان سياسيا وليس كما يظنّ البعض أو يسرّب آخرون على أنه صراع زعامة وطلبا للكرسيّ فقط . إذا فإنّ بورقيبة لم يستهلّ فقط حياته السياسية بالعنف المنظم . بل معروف عليه أنه أزاح خصومه بطريقة أو بأخرى قبل وصوله للسلطة وإبّان صعوده الذي تزامن مع صعود نجم القوميّة العربية في الوطن العربي بعد أن نجح في تطويع وكسب عدد كبير من الزيتونيين وعلى رأسهم الطاهر بن عاشور.كما كسب إلى صفّه شخصيات حداثيّة استغل معارفها ومهارتها ورؤاها كالمسعدي الذي اشرف كلّيا على تطوير التعليم وركّز مؤسساته على نهج إصلاحيّ حداثيّ يتماهى والتجارب المتطوّرة وأصّل مجانيته وتعميمه على خارطة تونس وركّز مسألة لها أهمّية كبيرة في تاريخ تونس وهو تعميم تعلّم المرأة وتمدرسها لتصل إلى ما بلغته هذه الأيام (والمراد الآن تقزيمها حتى يصل جمع من مكونات الساحة إلى إعدامها والعودة بالمرأة التونسيّة المكافحة بعد كلّ مكتسباتها. إلى الحرف الأول أي البيت مع علمهم بدور أمهات المسلمين في العلم والعمل أيام بعث الرسالة المحمّدية).وكان المسعدي يستدلّ ويستند على فكر الطاهر الحداد أساسا وغيره من المفكّرين العرب التقدّميين.وكان بورقيبة هو من جنى ثمرة عمل المسعدي والبروز على أنه هو من حرر وقرر.ويزيح بذلك ذكرى رجال هم من صنع تونس فعلا وليس قولا.والذي وجب الآن إعطائهم القليل من الوجود في ذاكرتنا الجمعيّة بإعطائهم حقّهم التاريخي فيما قاموا به. وابتلعه الطاغية المعبود آنذاك بورقيبة الذي يصنع من نفسه محرّر المرأة وباني العلم والتعليم ومجانيّة مستلزمات ومقوّمات الحياة لديمومة آلة العطاء والبناء فكرا وساعدا. (الشعب الكادح). وهو في الحقيقة مطبّق لرأي غيره ممن كانوا محدّثين منذ المرحلة الاستعمارية والذين توافقوا مع برامج الدولة الحديثة التي كانت مطلب واقعيّا وجدّيا لكلّ مكونات البلاد من مثقفيها ومتعلّميها إلى عمّالها وكادحيها.
وعلى عادته في سرقة أفكار الآخرين (قبل أن يحيلهم إلى مهام أخرى) هي في الأصل خطط وظيفية تفرغ ما بقي من أفكارهم بدون أن يكونوا أسماء قابلة للمزاحمة لزعامته الربّانية. التي انتهت بالانتخاب لمدى الحياة.
ولم يكتفي بالسطو على الفكر و التصفية للخصوم بل صنع لهم محاكم عسكريّة قادته إلى فكرة السيطرة على القضاء فيما بعد بترؤسه وبعد ذلك ترؤس الجيش الذي قام بأول تحرّك فعلي ضدّه في المحاولة الانقلابية التي كانت تحمل في باطنها تحرّك سياسيا قوميّا والتي تزعّمها في الستينات لزهر الشرايطي ومجموعة من رجالات تونس وكان مصيرهم الإعدام طبعا بالنسبة للقادة والمؤبّد وغيره ممن قضوا ما قضّوه في "برج الرومي" .
ولن أتحدّث عن صاحب "تونس الشهيدة" الذي انقلب عليه بورقيبة لتأسيس الحزب الحرّ الدستوري وأقصد الثعالبي . أو إبراهيم طوبال الذي هرب إلى الجزائر ليعيش هناك بعيدا عن بطش بورقيبة ويدون كتابه "البديل ألثوري" لضيق المجال في حصر الضحايا الذين نسيهم التاريخ حتى الآن على الأقل من أبناء تونس الحقيقيين الذين غدر بهم بورقيبة فقط ليبقى على كرسيّه. كما لن أتحدّث عن حصار المعرفة وقمع حرّية الرأي المخالف لرأي الزعيم صاحب توجيهات السيد الرئيس اليوميّة . وقمعه للأحزاب التي كانت سابقة لوجوده كالحزب الشيوعي والأحزاب القوميّة التي دخلت إلى مرحلة السرّية مثل غيرها من الأحزاب اليسارية الأخرى وعلى رأسها تنظيم "أفاق" الذي قاسى منتسبوه وحتى المتعاطفين معه السجون والعذاب اليوميّ حتى "انقلاب قربة"1972 على المنظمة الطلابية الإتحاد العام لطلبة تونس وبعدها كانت محاكمات العامل التونسي 1975 ومن ذلك التاريخ تفطن بورقيبة إلى وجوب قتل الزعامات البديلة.
وتفريغ الساحة من مشاريع خلفاء له في تونس وحتى من حزبه الذي أصبح متغلغلا في كلّ نواحي الحياة الإدارية والجمعياتيّه والأمنيّة وكل النواحي الشعبيّة إلى درجة أن اسمه الذي كان جزءا من النشيد الرسمي للبلاد "بروح الحبيب زعيم الوطن" تأشيرة عبور إما للعالي أو للسجن بقدر ما تشحن هذا الاسم من شحنة سلبية أو إيجابية . وكان لكل جانفي بعد رمزيّ للعمل الثوري وكلنا يتذكّر 26و4من جانفي "الأسود" وغيرهما من تواريخ هذا الشهر الثوريّ التي قادته الى محاولة كسر شوكة الرمز الثوريّ للشعب وهو الإتحاد العام للشغل وفي كلّ مرّة يفشل فشلا ذريعا . وهنا أذكّر بمحاولة إنشاء ما سمّي إتحاد الشرفاء "الدساترة" وعلى رأسهم "عبيد" محاولة منه لبث الانشقاق .
وبعد وصول الفكر الوصولي لتونس ضربا لليسار المتفاقم في التمدد على الساحة وبمباركة فرنسية أمريكية ودعم سعوديّ في البداية. وبعد نجاح الفكرة إثر تناحر أبناء الوطن كل في سبيل فكره الذي يتبنّاه حتى بلغت الحالة حدّ العنف وإضعاف اليسار بالتشجيع على الانقسام ودس العناصر التي دفعت نحو شرذمة اليسار. بقي اليمين طليقا حدّ ما اعتبره "الدساترة" تطاولا على الشرعية التاريخية للحزب الاشتراكي الدستوري في الانتخابات التي قاربوا الفوز فيها بأغلبية مبرمجة سلفا (ولا أنزههم لدورهم الكبير ساعتها في تمدد قبضة الحاكم وحتى من خالوه خلفا له) وبذلك فضحت قيمة ما تبق من الحزب الحاكم على الساحة السياسية وخصوصا بعد نفي القيادات التاريخية لليسار التونسي
واكتفاء القوميين بالعمل داخل صلب الحزب الحاكم كحل لاختراقه من الداخل وتعلّم عنهم الإسلاميين الذين بعد شنّ الحرب عليهم توخوا نفس المنهاج وتستّروا برداء الحزب الدستوري(ثم التجمّع) حتى كان الوهن والكبر والعجز المقرون بمرض العظمة الذي وفّر للاعبين المعتمدين على الداعم الفرنسي الجو الملائم لكن حساباتهم خاطئة هذه المرّة لأنّ المد الأمريكي كان هو الحاكم في العالم لذلك لم تنجح محاولة المزالي ولا الصياح ولا غيرهما. بالفوز بالسلطة بينما وفّرت ليلى الطرابلسي لبن علي، مقرّ الاجتماع بالمخابرات الأمريكية التي دربته لزمن طويل بعد تلقيه دروس عسكرية مخابرتيه في أمريكا بعد سنسير في فرنسا وبعد عمله في هذا المجال لمدّة طويلة طول مدّة نضال الشباب وأطياف من الشعب ضد بورقيبة والبورقيبية. لزمن طويل وعسير ومؤلم لمن لا يعلم عن صنوف التعذيب والقتل المنظّم على يد البوليس السياسي وكل أنواع البوليس والميليشيات "كميليشيا الصياح" وغيره . وكان وقتها (زين العابدين) الذراع البوليسي الضارب الذي يقتل الشعب ببرودة كانت طريقه نحو الانقلاب وما كان منه مما كشف ما ستره بحجاب الطاغوت ومما ستكشفه الأيام القادمة. فكفّوا يا "أطفال بورقيبة" عن تنزيه ما لن ينزّه واليكن ذكرنا له بطلب الرحمة فقط . وليعلم الجميع أن بورقيبة لم يكن وحده قادرا على فعل كلّ المآسي بل بمعيّة ومباركة "أطفاله" الذين يطلّ علينا اليوم البعض منهم ليذكرونا بوجودهم بيننا حتى الآن وأنهم لم يحاسبوا بعد على ما اقترفوه في حقّ الشعب قبل ثورة الخبز وبعد فكونوا جريئين واصمتوا ففي الصمت جرأة عند المذنب التائب.
ومن جملة العناصر التي قام بورقيبة ومعاونوه بإفسادها وتكريس تبعيتنا للمستعمر من خلالها والتي استثمر هذه الأخطاء الكبيرة زين العرب لقتل الشعب. عناصر نوردها كأمثلة على الانحراف السياسي و الأهم هو الاقتصادي. عن شعارات الوطنيّة. وبيع تونس جملة وتفصيلا للمستعمر الإمبريالي الصهيوني. وأنطلق من أهم عنصر وأكثره حساسية الفلاحة: 
ومن أهم العناصر التي قام بورقيبة ومن بعد خلفه بتدميرها بشكل هستيريّ. "الفلاحة" الذي كان يكوّن أول ما يقوم عليه اقتصاد تونس(مطمور الرومان) هذا الميدان الذي دمّر حتى يكون سهلا ابتلاعه من طرف خاصتهم على أنه مريض ويجب أن يخوصص. رغم أنه كان المزاحم الذي يخلق توازنا في قفّة المواطن.هي أراضي الدولة(أي أراضي الشعب الفلاحيّة)وكما دمّر الفلاّحين الصغار وكبّلهم في قروض ما فتأت تزداد وطئتها ووطأة نسب فائدتها و من خلال إعادة جدولتها لأن الفلاح الصغير عاجز عن الدفع في ظلّ معطيات وتبعات عالميّة خصّنا بها هذا الزمن المبني على القوّة فالدول المصنّعة هي من ثقب طبقة الأوزون ليتغيّر كلّ ما بنته الطبيعة في جزءها الكليماتولوجي العام والذي كانت تتأسس عليه خارطة الفلاحة خصوصا عند صغار الفلاحين مقابل توصل نفوذهم من خلال بيع ما أهدوه في البداية من أسمدة ومواد أساسيّة للفلاحة وبأثمان بدأ يعجز الفلاح الصغير عن سدادها مما اضطره للاقتراض والتدين بلوغا مرحلة بيعه للأرض والخروج منها نحو العاصمة. وهي أمل الحالمين بلقمة عيش كريمة عبر النزوح أو الهجرة. ولكن في أفضل الأحوال سيجد نفسه في فقر وجوع وتشرّد هو وعائلته ويكون قوت يومه مصدر تجارة رابحة للدكتاتور. و الدكتاتوريّة هي التي قامت أولا بأهم أدوارها وهو تحطيم البنية القاعدية لشبه الاستقلال ألفلاحي الذي كان يمثّل أهم مصادر للغذاء بنسبته العالية جدا في تغطية الساحة الوطنيّة وهي أيضا مصدرا من أهم مصادر العملة الصعبة التي كانت تدرّ خيرا على الوطن عموما. 

القصة القصيرة : تجديد لأنشودة الصمت بقلم/ مروان محمد




(1)

توقف على درجات السلالم يرهف السمع إلى ذلك الحديث الهامس اللاهث بين الساكنة الجديدة و العربى ثم الضوء ينسحب إلى الداخل سريعا و العربى يغلق باب شقته فى صوت مكتوم.

أصابع قدميها تتسلل فى حذر تام, علت شفتيه ابتسامة باهتة, غمغم محدثا نفسه فى سخرية:

- العربى ذلك الطفل يلاعب نساء متزوجات!

مفتاحه يدور فى ثقب الكالون, يدفع باب الشقة, تفلت منه زفرة حارة, التحم فى فضاء الصالة الملون بالأصفر الكئيب, أغلق الباب و هو يلقى نظرة حزينة على مكان جدته السابق فوق الكنبة فى ركنها المفضل.

فيجد انبعاجات الأسبوع الفائت لازالت تترك أثارها على هذا الركن, اتجه إلى حجرتها المظلمة و صوت المذيع يتدفق رقيقا دافئا من جهاز الراديو الأحمر الصغير, أفاقت على دخوله و جسده يحجب الضوء الشاحب المنبعث من اللمبة السهارى, أدارت له رأسها, جلس على طرف الفراش, يسألها فى صوت هامس:

- كيف حالك اليوم؟

- حالى تسير كل يوم إلى أسوأ و لكن الحمد لله.

- هل ستتركينى؟

- هل تخاف من ضياع الشقة؟

ضحك قائلا:

- لماذا تفترضى فى سوء النية دائما؟

اجفلت للحظة و هى تبلل شفتيها اليابسة بلسانها و هو يقول:

- لا أريدك أن تموتى.

امتدت يدها تعبث بقرص الصوت ليرتفع صوت المذيع أكثر.

(2)

" نحن نقص عليك أحسن القصص"

لأول مرة يلاحظ هذه الأية المكتوبة بالخط الأحمر على لافتة دكان " سعد الخياط", لا يعرف كيف لم يلحظها من قبل رغم وجودها منذ زمن, اطلق ضحكة قصيرة ثم دخل إلى الدكان و هو يلقى السيجارة على الرصيف.

- السلام عليكم يا عم سعد.

- و عليكم السلام يا عاطف.

أشار عاطف بسبابته للخارج و هو يقول مبتسما:

- هل تدرى موضع هذه الآية من القرآن التى تضعها على يافطتك يا عم سعد؟

اشتبك حاجبا سعد للحظات يتفكر ثم فطن عقله لما يشير إليه عاطف و تراجع فى مقعده بعد أن لضم الخيط فى ثقب الأبرة.

- بلى أعرف.

- ........

- سورة يوسف يا عاطف.

ابتسم عاطف فى مغزى خاص فلوح سعد بيده اليمنى و نصفه العلوى يميل على الماكينة السينجر مرة أخرى يقول:

- من سيفطن إلى ذلك يا عاطف, الآية متماشية مع طبيعة مهنتى!

(3)

- كيف حالك يا عاطف؟

- بخير.

- الست الحاجة, كيف حال صحتها الأن؟

- بخير.

- الحمد لله أنها أفضل.

تأمل عاطف الملف البلاستيك المحشو بالأوراق و الموبايل الذى يحمله هذا الشخص فى يده اليمنى, على الرغم من برودة الجو ألا أن الرجل كان يتصبب عرقا.

- أعذرنى فأنا لا أتذكر أسمك.

- أنا أسمى مجدى ... الساكن الجديد يا أستاذ عاطف.

ضغط على كلمتى " الساكن الجديد" كأنه ينبهه إلى حقيقة هامة كان من المفترض أن يفطن إليها من تلقا نفسه!

- بأذن الله الست الحاجة ستتعافى عما قريب, أنا أختى كانت بعافية مثل الست الحاجة و كانت تدهن مكان الألم بزيت حبة البركة فشفيت بعد فترة قصيرة و الأن تجرى كالحصان.

أحس عاطف بأن مجدى لا ينقصه سوى باروكة شعر أنثوية حتى يتحول إلى نصف إمرأة فضولية سخيفة.

- سأخبرها بذلك.

هم مجدى بان يستطرد لولا أن شاهد بصيصا من الضوء يتسرب من الدور الذى يعلوهما ثم الباب يغلق فى صوت مكتوم لينسحب الضوء سريعا إلى الداخل, زفر مجدى مغتاظا و ملامحه تتقلص فى ضيق و هو يقول:

- لا أعرف لماذا لا أرتاح للعربى هذا؟

ابتلع ريقه فى عجالة حتى لا يعوقه عن الاستطراد فى بث كلماته السريعة مبتورة النهايات دائما:

- هناك أشخاص عندما تقابلهم للمرة الأولى يتركون لديك أنطباع سىء.

هز عاطف رأسه دون أن يعلق و مجدى يقول فى طبقة صوت حرص على خفوتها:

- لا أرتاح لما يدور خلف باب شقته و أخشى على زوجتى منه!

أنهمك عاطف أثنا كلام مجدى فى إحصاء القرون الوهمية التى تنبت من رأسه فوجدها قد زادت اليوم ثلاثة !!

غادره عاطف بعد أن تبادلا بضعة كلمات أخرى سريعة, و هو فى طريقه إلى القهوة حاول أن يتذكر هل أوستيك ساعة مجدى كان فضيا أم جلد أسود؟!

(4)

- أنها المرة الأولى التى أقابل فيها رجل عن طريق عامود الراغبين فى الزواج المنتشر بالجرائد.

- كذلك أنا.

أحنقها نوعا ما رده المقتضب و هو يضع ساق فوق الأخرى ملتقطا أحدى سجائره الكليوباترا و عينيه تجولان فى أرجا القهوة يتأمل سحب الدخان, ساد الصم بينهما لثوان حتى مزقت هى ستار الصمت بقولها:

- على الرغم من أننا فى فصل الشتاء ألا أن الجو حار.

ملأ صدره بهوا البحر بقدر ما يستطيع ليغسل الهواء السكندرى السحرى ما فى صدره من اضطراب, بعد زفيره القوى استقر عند أنفه رائحة البحر الملحى.

عيناها الجميلتان الواسعتان تتأملان وجهه فلم تجد فيه ما يلفت أنتباه أى فتاة, همت بأن تنطق بشىء ما و لكن الكلمات تراجعت سريعا وراء حلقها.

- كنت موشكة على قول شىء ما.

داعبت خصلة الشعر التى تنساب فى رقة فوق عنقها الطويل و رسم فيها الصغير شبح ابتسامة و هى تراقب هذين العاشقين اللذان انتخبا ركنا قصى فى القهوة تنقطع فيه صلتهما بالعالم الخارجى.

- هل عندك شقة أو حتى فى سبيلك للحصول عليها؟

هز رأسه نافيا و تفرس فى قسمات وجهها الذى تحاصره لمسات من الكآبة و تجاعيد فى طور التكوين.

أخرج من جيبه ورقة صغيرة و قلم جاف فرنساوى بدون غطاء, سطر فى الورقة بضع كلمات و هو يقول بصوت هادىء:

- على العموم, هذا عنوان بيت جدى, إذا أراد طرف من أهلك السؤال عنى, فأنا أسكن معها.

أومأت برأسها و هى تتناول منه الورقة ثم ناولته كارت قائلة:

- هذا كارت أخى, و به العنوان و رقم التليفون فى العمل.

ضحكت فى عصبية و هى تضيف:

- أنا أعيش فى بيته مؤقتا.

ابتسم متفهما و هو يتأمل شفتيها الصغيرتين المغموستين فى طبقة من الروج الأحمر الرخيص.

(5)

- كيف هو حالها الأن يا دكتور؟

- بخير أنا أعطيتها حقنة كورتيزون و لتدوام على أخذ الحقن الباقية حتى نهاية الأسبوع ثم أحضرها لى فى العيادة لنرى تطورات الامر, و أن لم تحرز أى تقدم مع العلاج الحالى سنضطر إلى تغيره!

لم يرهق عاطف أذنيه بالاستماع إلى ثرثرة الطبيب و صاحبه حتى الباب, أرتفع صوتها بعد أن أغلق الباب قائلة:

- يبدو أن دكتور عبيط يا ولد يا عاطف!

- لا تشغلى بالك.

- أشعر بتقلص شديد فى مؤخرتى يا ولد.

- هذا أمر طبيعى , فلقد أعطاك جقنة فى العضل.

- هل هناك جديد عن أخبار عملك كنجار فى البحرين يا ولد؟

- أنسى هذا الموضوع تماما يا جدتى؟

- على العموم أصبر, الفرج يأتى دائما بعد الشدة.



ابتسم ساخرا و هز رأسه دون أن يضيف كلمة أخرى, فقط جلس على طرف الفراش يتأملها و جفنيها يرتعشان ثم تنام فى هدوء كئيب.

شعر: عامية - فصحى: سحر طيفك بقلم/ ‎أحمد الأطرش صناجة



تهادى طيفك في الغسق
بتيه ودل ساحر
سبحان ربي
وما خلقْ
سحرٌ وفتنةِ قد مياس
وشذىً
قد أسكر حتى العبقْ
وترنيمة صوت
بتراتيل أخاذة
ويح روحي
هديل أثمل بنغمته
حتى الشفقْ
فتمايل سناه طرباً
وتضاحكت بدل
سوسنات
وغرد بلبل من ألقْ
وخرير شلال متيم
من سنا العيون
يتراقص من صِبٍه
ويحي
طفلٌ رضيع قد نطقْ
كيف اللقاء ساحرتي ؟؟
وأنا المتيم صبابة
بلا وعينيك وسحرهما
وفتنة لحظ تذهل الشفقْ
بلا وشمس وجهك وضحاها
وبسمة ثغرك وسناها
وخمرة شفتيك ولماها
قلبي قد احترقْ